نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية نحو إزالة الحدود والحيز الإنساني والهوية الإنسانية والذات المتعينة ومحو الذاكرة التاريخية والذوبان في الطبيعة/المادة والهرب من المسئولية الأخلاقية والمقدرة على التجاوز من ناحية، ومن ناحية أخرى، النزعة الربانية نحو تجاوز الطبيعة/المادة وتقبُّل الحدود والمسئولية وعبء الوعي وتأكيد الهوية الإنسانية وتركيبيتها. والنزعة الربانية تعبير عن وجود عنصر غير مادي غير طبيعي داخل الإنسان، وهو عنصر لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة نسميه «القبس الإلهي» ، وهو ذلك النور الذي يبثه الإله الواحد المتجاوز في صدور الناس (بل في الكون بأسره) ، فيمنحه تركيبيته اللامتناهية، ويولِّد في الإنسان العقل الذي يدرك من خلاله أنه ليس بإله، وأنه ليس بالكل، وأنه مكلف بحمل الأمانة، وأن عليه أعباء أخلاقية وإنسانية تشكل حدوداً وإطاراً له. ولكن هذه الحدود هي نفسها مصدر تميزه، فهي تفصله عن كل من الإله والكائنات الطبيعية، وتميِّزه عن هذه الكائنات بعقله ووعيه والمسئولية المناطة به. فكأن الحدود هي حيزه الإنساني الذي يمكن للإنسان أن يحقق فيه إمكانياته أو يجهضها. وهو الحيز الذي يتحول فيه الإنسان إلى كائن اجتماعي قادر على أن يرجئ رغباته ويُعلي غرائزه ولا يطلق لشهواته العنان حتى يمكنه أن يعيش مع الآخرين ويتواصل معهم، وأن ينتج أشكالاً حضارية إنسانية تتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم المثيرات والاستجابات العصبية والجسدية المباشرة.