وفي القرن الأول قبل الميلاد، بدأ اليهود يغادرون فلسطين في أعداد كبيرة وينتشرون في بقاع الأرض، ولكن هذا الانتشار تركَّز في مدن حوض البحر الأبيض المتوسط. ولم تَعُد فلسطين المركز الديني أو السكاني لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم، لأنها أخذت تفقد الخاصية الحدودية.
وقد فقدت فلسطين حدوديتها تماماً بعد فترة الصراع بين البيزنطيين والفرس، حيث أصبحت جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري العربي الإسلامي. واستمر هذا الوضع حتى القرن الحادي عشر حيث جاءت حملات الفرنجة وتأسست ممالك الفرنجة في فلسطين. ولكن هذه الحملات فشلت في تحقيق هدفها وهو تحويلها إلى جزء من حدود أوربا في الشرق.
وبالمثل، تتسم بعض الجماعات اليهودية الأخرى في العالم بهذه «الحدودية» . وإذا صدقنا دعاوى بعض المؤرخين القائلة بأن ملوك حمير قد اعتنقوا اليهودية في القرن السادس، أثناء صراعهم مع أباطرة إثيوبيا من الأقباط، فيمكننا اعتبار اليمن آنذاك منطقة حدودية تقع بين التشكيل الحضاري السامي الوثني في الجزيرة العربية وإثيوبيا المسيحية المتحالفة مع بيزنطة. وقد استوطن أعضاء الجماعات اليهودية في الهند: في بومباي وجوا وكوشين، وكلها موانئ ومناطق للتجارة.
ومن أهم الأمثلة على هذه الصفة الحدودية، إمبراطورية الخزر اليهودية الصغيرة التي كانت تقع على الحدود بين الإمبراطوريتين البيزنطية والإسلامية من جهة والسهوب الروسية التي كانت تسكنها قبائل سلافية وثنية من جهة أخرى. وقد اكتسبت هذه الإمبراطورية أهميتها بسبب موقعها الحدودي ودورها بين هذه القوى. ولكن، حينما تنصَّر الروس في القرن العاشر وتحولوا إلى قوة روسية أرثوذكسية متحالفة مع بيزنطة، وازداد ضعف المسلمين العرب، تم القضاء على إمبراطورية الخزر التي لم يعد لها دور تلعبه.