هناك وعي محدد بقضية الفرق بين الطبيعي والإنساني واستقلال الحيز الإنساني عن الحيز الطبيعي في العالم العربي (كما أسلفنا) ، ولكننا مع هذا نجد أن النموذج الاختزالي المعلوماتي التراكمي (الواحدي الموضوعي المادي) الذي لا يُفرِّق بين الظاهرة الطبيعية البسيطة والظاهرة الإنسانية المركبة يهيمن على الدراسات والبحوث في جامعاتنا ومراكزنا البحثية بل يكتسحها تماماً. وأعتقد أن ما يحدث هو أنه رغم وجود الوعي النظري بالاختلاف الجوهري بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية إلا أنه لا يتم تفعيله ولا ينتقل إلى مستوى الممارسة البحثية نفسها. وأعتقد أن كثيراً من الباحثين يتخلون عن وعيهم هذا ويَسقُطون في الممارسة الاختزالية التي لا تُفرِّق بين الطبيعي البسيط والإنساني المركب.
وعادةً ما يحدث هذا في مرحلة صياغة الفروض. وقد عُرِّف الفَرْض العلمي بأنه منطوق أو مقولة أو تقرير مبدئي لما نعتقد أنه علاقة بين متغيرين أو أكثر، ويعكس الفرض تكهنات الباحث بالنسبة لنتائج البحث المرتقبة. ويَتبنَّى الباحث الفرض بشكل مؤقت حتى يتحقق صدقُه أو كَذبه عن طريق الملاحظة والتجريب. ويقوم الفرض بتوجيه الباحث إلى المعلومات والبيانات التي يتعين جمعها وهو ما يوفر كثيراً من الوقت والجهد كان يمكن أن ينفقه في الحصول على بيانات محدودة أو عديمة القيمة تتصل بالمشكلة قيد الدراسة. فمن الواضح أن مرحلة صياغة الفروض هي من أهم مراحل البحث إن لم تكن أهمها. ولكنها، بدلاً من أن تكون المرحلة التي يبدأ الباحث فيها عملية التفكيك والتركيب بشكل مُتعمِّق وبلورة الإشكالية التي سيتناولها، أصبحت (في كثير من الأحيان) المرحلة التي يَتبنَّى فيها الباحث النماذج الاختزالية الواحدية المادية التي تقتل الواقع الإنساني وتميته وتقضي على أبعاده المركبة وتقذف بالباحث في براثن النماذج المعلوماتية التراكمية والموضوعية المتلقية.