أما طرد اليهود من القدس، فلم يكن جزءاً من سياسة روما الداخلية وإنما جاء في إطار سياستها الإمبراطورية وكمحاولة لتهدئة المنطقة. وكان طرد اليهود من المدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعود إلى أسباب خاصة بحركيات الدين الجديد ومحاولة الدولة الإسلامية الجديدة تأمين مركزها وقلبها بضمان عدم وجود أقليات لا تدين لها بالولاء. وحينما قام شميلنكي بالهجوم على الجماعات اليهودية، فإنه كان يفعل ذلك في إطار حركة تحرُّر وطني وثورة فلاحية ضد المستغلين البولنديين الذين تَصادَف وجود اليهود كوكلاء لهم. وحينما كتب شميلنكي إلى كرومويل، في محاولة لتوحيد القوى الأرثوذكسية والبروتستانتية ضد الكاثوليكية، فإنه لم يذكر اليهود من قريب أو بعيد.
وإن أردنا أن نجد نمطاً متكرراً في ظاهرة طرد اليهود، فإننا لن نجده على صعيد العالم وإنما داخل التشكيل الحضاري الغربي، وبخاصة في العصر الوسيط. وسنجد أن السبب وراء طرد اليهود لم يكن كُرههم وإنما كونهم جماعة وظيفية وسيطة تشكل عنصراً استيطانياً غريباً، يُوطَّن (أي يُستورَد) ويُصدَّر ولا يضرب بجذوره في أي مكان، تماماً مثل الجنود المرتزقة. والجماعة الوظيفية الوسيطة تلعب دورها، ثم يستغنى عنها المجتمع فينبذها، فتنتقل إلى مجتمع آخر، وهكذا. وعادةً ما تستغني المجتمعات عن الجماعة الوظيفية الوسيطة حينما تظهر هياكل مركزية للإدارة (وهذا ما حدث في حالة إنجلترا عام ١٢٩٠ وفي فرنسا في أواخر القرن الرابع عشر وفي إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر) أو حينما تظهر طبقات محلية بديلة (وهذا ما حدث في معظم أوربا بالتدريج ابتداءً من القرن الثاني عشر) .