ونحن نذهب إلى أننا لا نستطيع كتابة أي شيء (إلا قائمة المشتريات من البقال) بدون نموذج. فنحن لا يمكننا إدراك الواقع الخام مباشرةً إذ لابد أن نتعامل معه من خلال خريطة إدراكية تُبقي وتَستبعد. فالنموذج، بهذا المعنى، مرتبط تمام الارتباط بأبسط العمليات الإدراكية بل بالحالة الإنسانية نفسها وبطبيعة الإنسان؛ لا ككائن مادي طبيعي، شيء بين الأشياء، وإنما ككائن بشري أو رباني لا يخضع لمنطق الذرات والأرقام. إنه مرتبط بخروج الإنسان من حالة الطبيعة البسيطة الجنينية (حيث لا تُوجَد مسافة بين المدرك والمدرَك وبين المثير والاستجابة) إلى حالة الحضارة المركبة. إن استخدام النماذج أمر حتمي للإدراك الإنساني ولإجراء أي بحث. فلو جابه الإنسان الواقع، ولو جابه الباحث موضوع بحثه بصفحة عقله المادية البيضاء، لأصابه الشلل، ولوجد نفسه مذعناً إما لنماذج الآخرين دون وعي، أو لبعض جوانب الظاهرة موضوع الإدراك والبحث، بحيث يرصدها بشكل ذري مفتت غير متماسك. وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحسن أن ننطلق من إدراك هذه الحتمية وأن نواجه الواقع بتساؤلاتنا وإشكالياتنا ونماذجنا التحليلية، مدركين ذلك تمام الإدراك، الأمر الذي سيُحسِّن أداءنا النظري والتطبيقي.
وهذه الموسوعة هي بمعنى من المعاني دراسة لحالة معيَّنة (اليهود واليهودية والصهيونية) من خلال استخدام مجموعة من النماذج المستقلة المتشابكة.
المنحنى الخاص للظاهرة
تتأرجح كثير من المناهج بين الموضوعية والذاتية، أي افتراض موضوع خالص يوجد بذاته في العالم الخارجي يمكن إدراكه بطريقة فوتوغرافية دون تشويه، أو افتراض ذات خالصة تقف مستقلة تماماً عن الموضوع، تشوه كل ما يصلها من معطيات مادية لأنها تسقط نفسها عليه.