للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أشرنا إلى أن الترشيد هو إعادة صياغة الواقع والذات في ضوء «نموذج ما» . وقد يكون هذا النموذج دينياً (الإله المتجاوز) ، ولكن يمكن أيضاً أن يكون مادياً كمونياً متمركزاً حول الإنسان وعقله أو متمركزاً حول الطبيعة/المادة. وما يهمنا في سياق هذا المدخل هو النموذج الثاني، والأكثر شيوعاً في العصر الحديث، وهو النموذج الواحدي المادي الذي يجعل الطبيعة/المادة (لا عقل الإنسان) هي موضع الكمون. والترشيد العلماني هو ترشيد مادي يأخذ شكل تبنِّي الأساليب العلمية الموضوعية والبيروقراطية اللاشخصية في عملية تفسير الواقع وإدارة المجتمع وإعادة صياغته ورفض الالتفات إلى التقاليد والأعراف الأخلاقية والموروثة وكل المطلقات المتجاوزة والثنائيات، وهي عملية شاملة تُخضع كل شيء لقانون الأرقام والعقل. والترشيد، بهذا المعنى، هو عملية تجريد للعالم في إطار النموذج الواحدي الكموني المادي بحيث يُستبعَد كل ما لا يتطابق مع هذا النموذج، أي كل ما هو متجاوز لعالم الطبيعة/المادة. والعلمنة أيضاً عملية تطبيع، أي إدراك الإنسان باعتباره ظاهرة طبيعية وجزءاً عضوياً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، وعلى أساس أن ما يسري عليها يسري عليه، أي أن العلمنة هي عملية نزع القداسة عن الكون ورؤيته في إطار قانون مادي واحد كامن فيه، ومن ثم فهي عملية ترشيد وتجريد وتطبيع. ويُشكِّل هذا التعريف إطار مناقشتنا لآراء عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وآراء عالم الاجتماع الأمريكي بيتر برجر في موضوع علاقة التوحيد بالترشيد ومن ثم العلمنة، وتطبيق هذا على حالة اليهودية.

<<  <  ج: ص:  >  >>