ساد بعض الأدبيات العربية والإسلامية القول بأن اليهود هم مخترعو العلمانية ومروجوها في العالم بأسره، بل إنهم المسئولون عن ظهورها. وهذا ما تؤكده بروتوكولات حكماء صهيون التي يقتبس منها البعض وكأنها وثيقة علمية مهمة. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الأطروحة ساذجة للغاية وتعطي لأعضاء الجماعات اليهودية وزناً وحجماً يفوقان كثيراً وزنهم وحجمهم الحقيقيين. فالعلمانية ليست مجرد مؤامرة أو حركة منظمة أو فكرة أو أقوال، وإنما هي ظاهرة اجتماعية وحقيقة تاريخية ذات تاريخ طويل ومركب، تعود نشأتها إلى عناصر اقتصادية وفكرية وحضارية عديدة وإلى دوافع واعية وغير واعية أدَّت جميعها إلى انقلابات بنيوية في رؤية الإنسان الغربي لنفسه وللطبيعة والإله، وفي بنية المجتمع نفسه. وهي، شأنها شأن كل الظواهر الاجتماعية والتاريخية، لا تظهر بسبب رغبة بعض الأفراد أو الجماعات في ظهورها وحسب، وإنما تتم أيضاً خارج إرادة الأفراد، ورغماً عنهم أحياناً. وقد تم الانقلاب العلماني في الغرب بمعزل عن أعضاء الجماعات اليهودية، كما أن كثيراً من المجتمعات التي لا يوجد فيها يهود على الإطلاق (مثل اليابان) ، أو توجد فيها أقليات يهودية صغيرة إلى أقصى حد (مثل يوغوسلافيا وبلغاريا وشيلي وكينيا) ، تمت علمنتها بدرجات متفاوتة، وهو ما يدل على أن اليهود ليسوا السبب الوحيد أو الأساسي لظهور العلمانية.
وثمة ظواهر عديدة ساهمت في ظهور العلمانية وتأثرت بها (فهي سبب ونتيجة في آن واحد) مثل الإصلاح الديني، وحركة الاكتشافات، والفلسفة الإنسانية الهيومانية، وفكر حركة الاستنارة (الفكر العقلاني والنفعي) ، والدولة القومية المركزية، ثم الثورة الفرنسية والصناعية، والثورة الرومانتيكية، وتزايُد تركُّز الناس في المدن، وهي ظواهر تاريخية غربية لم تلعب الجماعات اليهودية فيها دوراً ملحوظاً. فدورهم في الحضارة الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر كان محدوداً للغاية.