وبالفعل، لعب اليهود، كجماعة وظيفية وسيطة، دوراً في علمنة المجتمع، فوسعوا نطاق القطاع الاقتصادي التبادلي، وكانوا عنصراً شديد الحركية في المجتمع الوسيط الذي يتسم بالسكون. وكانوا دائمي البحث عن زبائن جدد وسلع جديدة وأسواق جديدة، وكان لا يهمهم الإخلال بتوازن المجتمع أو بقيمه، فهم يقفون خارج نطاق العقيدة المسيحية وقيمها، لا يكنون لها أي احترام ولا يشعرون نحوها بأي ولاء، وينظرون إلى أعضاء المجتمع المضيف باعتبارهم شيئاً مباحاً. ولم يكن التاجر اليهودي، على سبيل المثال، يلتزم بفكرة الثمن العادل أو الأجر الكافي، وإنما كان يحمل رؤية صراعية تنافسية تناحرية غير تراحمية. وهكذا لعب اليهود دوراً فعالاً وحاسماً في تقويض الأخلاقيات الدينية، وفي دفع عملية الترشيد والعلمنة إلى الأمام.
وفي القرن السابع عشر، تزايد دور اليهود في عملية العلمنة مع ظهور الدولة المطلقة التي اعتمدت عليهم في عملية علمنة القطاع الاقتصادي والسياسي في المجتمع. وما فعله الأمراء المطلقون في وسط أوربا (في ألمانيا) يصلح مثلاً على ذلك، فقد استخدموا أعضاء الجماعة اليهودية ككل، وكبار المموَّلين اليهود (يهود البلاط على وجه التحديد) في النشاطات الاقتصادية، مثل: التجارة الدولية، وتمويل الجيوش، وعقد القروض والصفقات. وقد كان لانتشار يهود المارانو في أرجاء أوربا دور مهم في عملية العلمنة إذ كانوا هامشيين لا يؤمنون باليهودية أو المسيحية، فإيمانهم بكلتيهما كان سطحياً للغاية. وقد لعب المارانو دوراً مهماً في التجربة الاستيطانية الغربية كمموَّلين للشركات الاستيطانية وكمادة استيطانية. ونحن نرى أن الاستعمار الاستيطاني من أهم التجارب المؤثرة في إنشاء مجتمعات علمانية رشيدة خاضعة للنماذج المادية الهندسية في الإدارة.