ويمكننا أن نرى في إسبينوزا تعبيراً عن العناصر السابقة كلها، فهو من يهود المارانو، وفلسفته واحدية حلولية كمونية، كما أنه ينتمي إلى الجماعة اليهودية في أمستردام التي كانت تضم أنشط الجماعات اليهودية الوظيفية الوسيطة في العالم آنذاك والتي لعبت دوراً مهماً في الاستعمار الاستيطاني، وكان بينهم كثير من يهود البلاط. وكانت أمستردام نفسها مركزاً تجارياً تخلخلت فيه قبضة السلطة الدينية. وقد تمرَّد إسبينوزا على اليهودية الحاخامية، فطُرد من حظيرة الدين اليهودي، ولكنه لم يتبن أي دين آخر، ولذا فإن البعض يرون أنه أول إنسان علماني حقيقي في التاريخ.
ومع هذا، ولأسباب عديدة ربما من أهمها انعزال يهود اليديشية (في شرق أوربا) الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم آنذاك داخل الجيتو والشتتل، انفصل أعضاء الجماعات اليهودية عن التحولات الفكرية والبنيوية الضخمة في أوربا. وكان أغلبيتهم من المؤمنين بدينهم، يتبعون حاخاماتهم، أو قياداتهم الدينية غير الحاخامية في حالة الحسيديين، ويتمسكون بتقاليدهم الدينية والاجتماعية. وقد هاجرت أعداد كبيرة من هؤلاء إلى النمسا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقاوموا محاولات العلمنة والتحديث بضراوة. ولكن الدول الغربية قامت بعملية علمنة اليهود، وغيرهم من الجماعات الإثنية والدينية، بشراسة غير عادية ابتداءً من أوائل القرن التاسع عشر. وتمت أهم المحاولات بصورة أكثر منهجية في فرنسا على يد نابليون، ثم تبعتها ألمانيا والنمسا وروسيا القيصرية في منتصف القرن. وتكفلت الولايات المتحدة (المجتمع العلماني شبه النموذجي) بالإجهاز على ما تبقَّى من انتماء ديني بين المهاجرين من يهود اليديشية وغيرهم. ويرى مؤرخو الجماعات اليهودية أن تأخُر بعض الجماعات اليهودية في دخول العصر الحديث العلماني هو جوهر ما يُسمَّى «المسألة اليهودية» ، إذ ظلوا يشكلون جيباً دينياً تقليدياً في مجتمع علماني حديث.