٤ ـ ارتطمت محاولة تحويل اليهود إلى مزارعين بحركة إعتاق أخرى هي حركة تحرير الأقنان عام ١٨٦٠، وهذه الحركة الأخيرة ضيَّقت الرقعة الزراعية التي يمكن توطين اليهود فيها. وكما بيَّنا من قبل، كان تحرير الأقنان واليهود وأعضاء الأقليات الأخرى جزءاً من حركة واحدة تهدف إلى بناء الدولة المركزية القومية الحديثة في روسيا.
٥ ـ وكانت الكتلة البشرية اليهودية في تلك المنطقة (روسيا وبولندا) تُشكِّل معظم يهود العالم، وهي كتلة منعزلة إلى حدٍّ كبير عن محيطها السلافي على المستوى الحضاري والديني والوظيفي، يتحدث أعضاؤها اليديشية ويرتدون أزياء مغايرة لتلك السائدة في المجتمع، ويطلقون لحاهم وسوالفهم بطريقة غريبة. وقد كانت تهيمن عليهم قيادات أرثوذكسية وحسيدية تقليدية غير مدركة للانقلابات الحضارية الاقتصادية التي كانت تحدث في أوربا آنذاك. وكانت أغلبية يهود شرق أوربا من أتباع الحسيدية، كما أن اليهودية نفسها (كنسق ديني) كانت قد وصلت إلى مرحلة من التحجر والتخلف بعد جفاف الفكر التلمودي وبعد هيمنة الحسيدية والقبَّالاه، بحيث أصبح من العسير عليها التأقلم مع الوضع الجديد. ولذا، قوبلت محاولات التحديث في أغلب الأحيان بمعارضة حادَّة من قبل الجماهير اليهودية التي كانت تشعر بأن عملية التحديث هذه ستفقدها مهاراتها وقناعتها التقليدية وستدخلها في عالم غريب عليها. كما أن هذه الجماهير كانت تشعر بأن دعاة الاندماج والتحديث ليسوا إلا نخبة مستفيدة لديها ـ وحدها ـ الكفاءات اللازمة للدخول في هذا العالم الجديد الغريب. وإلى جانب كل هذا، لم يكن يهود شرق أوربا، رغم عزلتهم وتميُّزهم، يشكِّلون وحدة على نحو ما كانوا حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، فقد تهدّم نظام الشتتل تماماً، وانتشرت العلمانية في صفوفهم، وانصرف كثير من الشباب عن العقيدة اليهودية، بل سلكوا درب الجماعات الثورية.