تنطلق رؤية المفكرين الاشتراكيين، ماركس وغيره، من تجربتهم التاريخية في فرنسا وألمانيا والنمسا أساساً. وهي دول لم تكن فيها تجمعات يهودية كبيرة، كما أن اليهود كانوا مُركَّزين في الأعمال التجارية والمالية، وزاد ارتباطهم بالنظام الرأسمالي مع تطوُّر المجتمعات. أما في شرق أوربا وروسيا على وجه الخصوص، فكان الوضع مغايراً تماماً إذ كانت تُوجَد أكبر كتلة بشرية يهودية ذات صفات شبه قومية واضحة تميِّزها اللغة اليديشية، كما أن ظروف التحديث أدَّت إلى تحوُّل قطاعات كبيرة من اليهود إلى بروليتاريا. ولذا، تجاهَل البلاشفة كلاسيكية ماركس عندما كان عليهم أن يتعاملوا مع جزء كبير من هذه الكتلة التي ورثوها ضمن ما ورثوا من روسيا القيصرية. ولم يكن من الصعب عليهم تجاهل كتيب ماركس، لأنه كان من أعماله الأولى ولم تكن أفكاره قد تبلورت بعد. مع هذا، يبدو أن البلاشفة، مثل ماركس من قبلهم، قد خلطوا بين مفهومين مختلفين تمام الاختلاف في منطلقاتهما وفي نتائجهما، وظنوا أنهما شيء واحد. أما المفهوم الأول فهو مفهوم الأمة اليهودية العالمية، وهو مفهوم صهيوني مطلق يفترض وجود وحدة يهودية عالمية ويهدف إلى تأسيس دولة يهودية لجمع الشعب اليهودي. أما المفهوم الثاني، فهو مفهوم اليهود بوصفهم أقلية قومية شرق أوربية لها خصوصيتها التي لا تختلف عن خصوصيات القوميات أو الأقليات الأخرى الموجودة في روسيا القيصرية. وهي خصوصية قد تفصل أعضاء الجماعة اليهودية عن محيطهم الثقافي الروسي أو البولندي، ولكنها لا تربطهم بالضرورة بالجماعات الأخري في بقية العالم، وهذا هو طرح البوند. ولعل هذا الخلط هو نتيجة محاولة البلاشفة والماركسيين عموماً الوصول إلى مستوى تعميم، مرتفع وعلمي، يتجاهل كل الخصوصيات أو يوحِّد بينها بحيث لا يراها، وهذا هو ميراث عصر الاستنارة والنموذج المادي الذي يصر على مستوى عال من البساطة والوضوح والتعميم لا يتفق مع تركيبية الظاهرة