للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عزلتهم واستقلالهم. وليس من قبيل الصدفة أن أول مفكر يهودي بارز في الحضارة الغربية الحديثة هو إسبينوزا الذي تخلَّى عن يهوديته تماماً. وقد أعلن هايني أن التنصُّر هو تأشيرة دخول الحضارة الغربية، فتنصَّر هو نفسه (كما فعل أبو ماركس وأولاد هرتزل وأولاد موسى مندلسون ونصف يهود برلين في القرن التاسع عشر.. إلخ) . ولكن الأدق هو القول بأن التخلي عن العقيدة اليهودية (وليس بالضرورة التنصُّر) هو تأشيرة الدخول (فليس مطلوباً من أحد التنصُّر، باعتبار أن مرجعية الحضارة الغربية لم تَعُد المسيحية وإنما العقلانية المادية أو الحلولية الكمونية) .

وتنبغي الإشارة إلى أن البُعد اليهودي قد ينصرف إلى بنية فكر المثقف اليهودي وإلى الموضوعات الكامنة، وليس إلى مضمونه الواضح. بل إن المضمون الواضح يمكن أن يكون عالمياً وإنسانياً بل معادياً لليهود أو الصهيونية، وتظل البنية والمقولات الأساسية الكامنة يهودية بالمعنى المحدَّد الذي نطرحه، كما هو الحال مع كل من إسبينوزا ودريدا وفرويد وكافكا. فإسبينوزا وقف موقفاً رافضاً تماماً لكل الأديان، بل اختص اليهودية بالهجوم الشرس، وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن كثير من المفكرين الغربيين منذ عصر النهضة وهيمنة العقلانية المادية، ومع هذا لا يمكن فهم حدة هذا الرفض وهذا الهجوم إلا بالعودة للقبَّالاه اللوريانية والتراث الماراني.

واهتمام فرويد الحاد بالجنس يمكن رؤيته كتعبير طبيعي عن تصاعُد معدلات العلمنة ومحاولة رد كل شيء إلى عنصر واحد (كامن/ حال) في المادة (الجنس في حالة فرويد) وهو بالفعل كذلك. ولكن القبَّالاه اللوريانية كانت قد قامت بإنجاز هذا معرفياً وبشكل متبلور قبل ذلك بعدة قرون. وقد وصف أحد المراجع القبَّالاه بأنها جنَّست الإله، وألَّهت الجنس: أي جعلت الجنس نموذجاً تفسيرياً كلياً ونهائياً، يُرَدُّ له كل شيء. وهذا ما فعله فرويد.

<<  <  ج: ص:  >  >>