وقد كتب كريستول مؤخراً دراسة بعنوان مستقبل يهود أمريكا تتناول وضع يهود الولايات المتحدة في ظل تزايد معدلات العلمنة. وتُعَدُّ هذه المقالة حدثاً فكرياً فريداً، إذ أنه قلب الأمور رأساً على عقب، فهو يؤكد في دراسته أن العلمنة جزء عضوي من عملية التحديث، وهو يصف العلمنة بأنها «رؤية دينية حققت انتصاراً على كل من اليهودية والمسيحية» ، وهو يصر على تسميتها «رؤية دينية»(رغم رفض العلمانيين لذلك) لأنها تحتوي على مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقية لاهوتية. وفي هذا الدين (العلماني) ، يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها (تأليه الإنسان) ، كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني. ذلك أن المقدرة على الخلق، التي كانت من صفات الإله، أصبحت في المنظومة الدينية العلمانية من صفات الإنسان، ومن هنا ظهرت فكرة التقدم. وهذه العقيدة العلمانية هي الإطار المرجعي لكل من الليبرالية والاشتراكية، بل إنها تغلغلت في الأوساط الدينية اليهودية والمسيحية (باستثناء الأصوليين والأرثوذكس) .
ويُلاحظ كريستول أن معدلات العلمنة بين يهود الولايات المتحدة مرتفعة إلى أقصى حد، بل إن اليهودية ذاتها تمت علمنتها ولم تَعُد عقيدة دينية وأصبحت مجرد نوع من المهدئات النفسية التي تساعد اليهود على تحمُّل التوترات الناجمة عن العصر العلماني الحديث. ويرى كريستول أن هذا أمر مفهوم، إذ أن المجتمع العلماني هو الذي أتى لليهود بحقوقهم وهو الذي أتاح لهم فرصة الاندماج، على عكس المجتمعات المسيحية التي كانت دائماً مجتمعات معادية لليهود. لكن الخطر الذي يواجه اليهود في الوقت الحاضر لم يَعُد معاداة اليهود وإنما الزواج المُختلَط، وهو خطر لم تجد له القيادات اليهودية حلاًّ بعد.