للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتحدث إسبينوزا عن القانون الطبيعي، وهو المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسير فيه الإنسان وكل الأشياء، وهو يسير فيه لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه مُقدّر عليه ذلك بالطبيعة. فالطبيعة هي المصدر وهي المآل، وهي المرجعية النهائية. وقمة المعرفة الإنسانية هي معرفة ذلك، أي أن يعي الإنسان النظام الكوني ويدرك آلياته، وعليه أن يفعل ذلك من خلال ما يمكن تسميته «المنظور الكوني الموضوعي» ، أي أن يستبعد الإنسان أية إرادة أو رغبات إنسانية أو اعتبارات خلقية مرتبطة بوهم مركزية الإنسان في الكون، وأن ينظر إلى الكون وإلى ذاته المتعينة كما لو كان إله إسبينوزا، أي أن يتجرد تماماً من العواطف ويُحيِّد كل انفعالات. وهو يجب أن يدرك أن العالم هو آلة دقيقة الصنع تدور حسب قوانين آلية كامنة فيها (وهذا هو جوهر الترشيد المادي العلماني: أن يُخضع الإنسان ذاته من الداخل ومن الخارج للواحدية المادية وللطبيعة/المادة، وأن يدرك ذاته في ضوء القوانين الحتمية المادية، وأن يذعن لها وأن يعيد صياغة حياته وبيئته بما يتفق معها) . إن قمة المعرفة الإنسانية هي أن ينفي الإنسان ذاته من خلال معرفة القانون الطبيعي والاستسلام تماماً له (وهذا تعبير عن النزعة الرحمية التي تسم الفكر الواحدي المادي والتي تتبدَّى في الرغبة في الانسحاب من عالم تذوب فيه الجزئيات في الكليات، والإنسان في الواحد المادي، حتى يتخلص من عبء الهوية ومن المسئولية التي تأتي مع حرية الاختيار الخلقي ومع إمكانية العقل، وهذه النزعة مهيمنة تماماً على منظومة إسبينوزا الفلسفية) .

<<  <  ج: ص:  >  >>