للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا أدرك الإنسان انعدام هويته الإنسانية المتعينة فإن ذلك لا يسبب أي أسى أو حزن، بل العكس، فحرية الإنسان تَكمُن في فهم هذه القوانين الحتمية وفي التحرر من وهم قدرته على تغيير الأشياء، أي أن حريته تكمن في تخليه عن وهم الحرية. فالإنسان يحقق سعادته القصوى ويشعر بانفعالات إيجابية طاغية بإدراكه سيادة فكرة الضرورة وبنفي ذاته كذات فاعلة حرة، وإعادة تعريفها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ومجرد انعكاس للقانون العام وجزءاً من منظومة رياضية هائلة لا يوجد فيها مجال للحرية (وهذه كلها انفعالات تذكر الإنسان بصفاء النفس أتاركسيا عند الرواقيين وأباتيا عند الأبيقوريين) . وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمتها، أي أن الإنسان سيصل إلى قمة الفرح في اللحظة التي يشعر فيها بالمشاركة في الطبيعة بأسرها، أي يتوحد معها ويذوب فيها ويتحرر من عبء الهوية ويسقط في الرحم الكوني.

ولكن ماذا إذا لم يصل الإنسان للمعرفة الكاملة ولم يتوصل إلا إلى قدر ضئيل منها (كما هو متوقع مع معظم البشر) ؟ هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم صحة التعريفات. فقصور البشر عن إدراك القوانين الكونية الشاملة لا يعني تكذيب المبدأ القائل بأن الأشياء تخضع لضرورة شاملة، فلو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل علمنا بالكون. إن إدراك قوانين الكون يجب أن يظل هدفاً يسعى إليه العلم، فهو علم يصدر عن الإيمان الكامل بأنه لا توجد عناصر متجاوزة للمادة غير كامنة فيها، وهو إيمان لابد من التمسك به حتى ولو أدَّى قصور إدراك كثير من البشر إلى عدم التوصل إلى هذه النتيجة، أي أن واحدية العالم المادية هي الأطروحة التي يصدر عنها العلم، وهي الأطروحة التي يحاول إثباتها والتي على كل البشر الإيمان الكامل بها، حتى لو لم يتمكن العلم من إثباتها. إن الواحدية الكمونية المادية هي ميتافيزيقا إسبينوزا الحقيقية.

<<  <  ج: ص:  >  >>