للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورغم هذه السيولة الكونية، نجد أن برجسون يُقسِّم البشر بصرامة إلى هؤلاء الذين يدركون الزمان كامتداد مكاني وكأنه كادرات فيلم سينمائي يتتابع الواحد تلو الآخر دون حركة أو وصل أو حياة، لا حياة في كل وحدة على حدة، وهم يدركون أنفسهم كتجل صلب في المكان وكوحدة جامدة صلبة باردة، ويستخدمون عقولهم وحسب في إدراك الواقع وتجميده وقتله. لكن هناك أيضاً أولئك الذين ينظرون للزمان باعتباره حيوية متدفقة متموجة، تُولَد وتنمو دائماً وكأنه الشريط السينمائي الذي يُلغي صلابة كل صورة على حدة فيبث فيها الحياة والحركة الدائمة ويربط بين أشتاتها ويكوِّن منها حقيقة واحدة متحركة (والحركة غير قابلة للقسمة، وهي متصلة تأخذ شكل ثبات لا يمكن فصل أولها عن آخرها، وذلك على عكس المسار المكاني فهو قابل للقسمة) . وهذا الفريق من البشر يتمتعون بالبصيرة والحدس، ولذا فإنهم يدركون الواقع في كليته وحيويته. وهم يدركون أنفسهم ككيان حركي حي قادر على الوصول إلى جوهر الأشياء.

ونلاحظ هنا أن التقسيم الثنائي الصلب الذي يوجد في فلسفة نيتشه ووليام جيمس: الأقوياء والضعفاء، المنتصرون والمهزومون، الأبطال والعاديون، والمتصوفون الذين يُولِّدون القوانين التي يُحكم بها عليهم، والمتعبدون والخاضعون لقوانين المجتمع. وعامة الناس هم، بطبيعة الحال، الضعفاء الخاضعون المهزومون الذين تسري عليهم القوانين العادية، أما الآخرون فهم نخبة صغيرة، مجموعة محدودة تتحرر من قيود العادة التي تربط الإنسان بالحقائق الاجتماعية والأخلاقية والإدراكية للواقع، لتحلِّق في عالم السيولة، ذلك الجزء الذي تدفعه الوثبة الحيوية بلا توقُّف، فهم قمة الحرية والإبداع.

<<  <  ج: ص:  >  >>