للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وماذا عن البُعد اليهودي في فلسفة برجسون؟ كان برجسون يذهب إلى أن اليهودية ديانة مغلقة من وحي مجتمع مغلق، وأنها دين ساكن إستاتيكي جامد، أخلاقه مغلقة تحمل الفرد على الإخلاص بشكل غريزي للجماعة. أما الكاثوليكية، في رأيه، فهي ديانة عالمية تتجاوز اليهودية، وهي دين منبعه الحدس لا الغريزة وغايته الاتصال بالوثبة الحيوية التي تكمن وراء شتى مظاهر الوجود. وإذا كانت اليهودية تُعلّم اليهودي التشبث بالحياة، فإن الكاثوليكية تعلم المسيحي الانفصال عن كل شيء (لا التعلق بأهداب الحياة) وهو شيء يتسم به المتصوفون وحدهم. والمسيح في نظر برجسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ بحيث يمكن القول بأن كل المتصوفة أتباع له. والصوفي المسيحي يشعر بأن الحب يستنفد وجوده كله، وهو ليس حب إنسان للإله، ولكنه حب الإنسانية من خلال الإله وبواسطته. ثم يُعرِّف برجسون إله الصوفية بأنه حياة ومحبة تعبر عنهما تلك الوثبة الحيوية التي تَصدُر عنها ديانة المتصوفين، وهم وحدهم الذين يتلقون عن تلك الطاقة الخلاقة التي هي الأصل في رؤاهم وكشوفهم، وعلى عاتقهم تقع مسئولية توجيه الإنسانية إلى حياة مستقرة مليئة بالمحبة والتعاطف.

وإذا ما أردنا أن نحدِّد البُعد اليهودي في فلسفة برجسون، فإننا سنجد أنه أقرب إلى إسبينوزا منه إلى اليهودية الحاخامية. فكلاهما يهاجم جمود اليهودية ولكنه يدور في إطار وحدة الوجود (الروحية والمادية) ، وكلاهما يُغيِّب الإله بأن يجعله مجرد قوة دافعة للمادة أو للزمان كامنة فيها تتخلل ثناياها وتضبط

وجودها. ولكن وحدة الوجود ليست سمة من سمات اليهودية وإنما هي أيضاً السمة الأساسية للرؤية العلمانية المتمركزة حول الإنسان أو المادة أو حول الإنسان باعتباره مادة، فكأن فكرة وحدة الوجود هي الإطار الذي ينتظم كلاًّ من اليهودية والعلمانية وكلاًّ من إسبينوزا وبرجسون، وكذلك كل الفلاسفة اليهود وغير اليهود الذين يتحركون في هذا النطاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>