والآن كيف يمكن استعادة التماسك والمركز والمطلق؟ يذهب دوركهايم إلى أن الكنيسة الجديدة (التي سيُزوِّد المجتمع بإطاره العقائدي والتي ستكون الآلية التي يحقق الإنسان من خلالها الخلاص) هي علم الاجتماع، فهو العلم الذي يُبيِّن كيف يتمكن الجزء (الفردي) من أن يتواصل مع الكل (الاجتماعي) ، وكيف يمكن أن يحقق النسق تماسكه، وهو العلم الذي سيزوِّد الإنسان بالمعرفة العلمية اللازمة التي يمكن أن يستند إليها التشريع الاجتماعي. فكأن دوركهايم لم يفصل الأخلاق عن العلم وإنما كان يحاول إقامة علم أخلاق مختلف تماماً عن الفلسفة الأخلاقية. وعلم الاجتماع قادر على رصد المطلق وتعريفه وهو مطلق لا يتجاوز الزمان والمكان ولكنه مرتبط بهما، ولذا فإن القواعد الأخلاقية التي يطرحها هذا العلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان. وعلم الاجتماع سيكتشف القيم النسبية المناسبة للزمان والمكان، ولذا فهي قيم مطلقة مؤقتة تنبع مطلقيتها من موافقتها لملابسات اللحظة التاريخية والظروف المكانية (ومن ثم، فإن دوركهايم هو من أوائل المبشرين بلاهوت ما بعد الحداثة) . إنها الأخلاقيات اللازمة لاستمرار المجتمع. وعلى الفرد أن يتبع هذه القوانين وأن يستبطنها تماماً باعتبارها القيمة المطلقة وعليه أن ينفذ الشعائر. وبذا، تحوَّل علم الاجتماع من علم يرصد الآليات بحياد علمي رهيب إلى علم معياري يقنن ويطرح الرؤى الأخلاقية التي تستند إلى قوانين علمية. وهو علم يرصد دائماً النظام والتماسك في المجتمع. وكل هذه الأبعاد تؤدي إلى شمولية كاملة حيث يجتمع التكنوقراط ليقرروا للبشر ما هو المطلق، ثم يطلبون منهم اتباعه باعتبار أن ما قرروه تم تقريره على أساس علمي.