للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن هذه الإدارة الذاتية عادةً ما تختفي مع بداية عملية التحديث وظهور الدولة القومية العلمانية الحديثة ذات النظام التعليمي والاقتصادي الشامل والتي تضطلع بمعظم وظائف الجماعات الوظيفية مثل جمع الضرائب. ومن ثم، فإنها تتطلب ولاءً كاملاً من أعضائها، وترفض منافسة أية جيوب دينية أو إثنية فرعية منغلقة على نفسها. وقد بدأت هذه العملية في أوربا مع بداية القرن الثامن عشر، واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. ويمكن رؤية المسألة اليهودية كتعبير عن الفجوة الحضارية الناجمة عن هذا التحول السريع.

والمفهوم الذي طرحته حركة الانعتاق والاندماج للهوية اليهودية، هو أن اليهودي فرد ينتمي إلى مجتمعه ويكتسب هويته منه، شأنه شأن سائر أعضاء المجتمع، ولذا فلا توجد أية ضرورة إدارية أو حضارية لقيام مؤسسات الإدارة الذاتية.

وعلى العكس من هذا تحاول التواريخ التي تنطلق من المنطلقات الصهيونية إظهار أن مؤسسات الإدارة الذاتية مؤسسات حكم ذاتي ( «دولة داخل دولة» حسب التعبير الصهيوني والمعادي لليهود) مقصورة على اليهود وحدهم، وبالتالي فإنها تعبير عن هويتهم القومية الجمعية التي ترفض الاندماج، لتستخلص من ذلك أن اليهود يشكلون كلاًّ واحداً وأنهم تجمُّع قومي مستقل عبر التاريخ في كل زمان ومكان. ينطلق الفكر الصهيوني من هذا المفهوم الجمعي للهوية اليهودية الذي يضرب بجذوره في العصور الوسطى والجيتو، والذي يصل إلى تعبيره الحقيقي عن نفسه في الدولة الصهيونية؛ التجربة الكبرى في الإدارة الذاتية.

ولكن الدولة الصهيونية سبقتها تجارب أخرى في الإدارة الذاتية من أهمها تجربة سورينام في الاستعمار الاستيطاني اليهودي وتجربة جيتو وارسو ومستوطنة تيريس آينشتات اللتين حاول النازيون من خلالهما أن يبينوا أن الشعب اليهودي شعب عضوي له مكوناته الحضارية المستقلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>