وقد انفصل المهجَّرون إلى بابل بالتدريج عن فلسطين، فلقد وجدوا في بابل الرعاية من الفرس بصفة عامة (ومن المسلمين فيما بعد) كما كانوا بعيدين عن اضطهاد الإمبراطورية الرومانية الشرقية. ولذا، فقد كانت بابل وجهة اليهود الذين يُلاقون الاضطهاد في أماكن أخرى من العالم، حتى أن تعدادهم بها زاد نحو المليون عند سقوط القدس في أيدي الرومان وتخريب الهيكل عام ٧٠م. وغدت بابل قلعة لليهودية، وأنشئت بها الحلقتان التلموديتان سورا وبومباديثا اللتان استمرتا قروناً حيث جرى فيهما تأليف أو وضع التلمود البابلي. وفي القرن السابع الميلادي، أصبحت العراق مركز الحياة اليهودية والعلم اليهودي، كما أصبحت ترسل من علمائها رؤساء للحلقات التلمودية في طبرية بفلسطين التي كانت قد غدت (منذ القرن الرابع الميلادي) مدينة مقدَّسة. ولم تنته زعامة بابل لليهودية إلا في القرن العاشر الميلادي، وإن استمر اليهود يعيشون فيها قروناً بعد ذلك.
ويرى أساتذة تاريخ اليهودية أن تَبلور اليهودية على شكل بنية فكر ديني واضح المعالم قد بدأ في بابل ونضج خلال القرن الأول من إقامتهم فيها. ومن المتعذر تعداد جوانب تأثير بابل في اليهودية، ولذلك نكتفي بذكر ما يلي:
١ ـ طوَّر فقهاء اليهود في بابل البنية الدينية لليهودية، وحرَّروها من الارتباط بأرض ومقام معيَّنين، وكرسوا المعبد اليهودي كبؤرة دينية اجتماعية سياسية يلتقي حولها اليهود أينما كانوا، الأمر الذي ساعد اليهودية بعد ذلك على التطور بحيث أصبحت نسقاً دينياً متكاملاً مستقلاً عن مكان بعينه.
٢ ـ بلغ الفكر الديني اليهودي في بابل أقصى ازدهار له، وتراكم منه الجزء الأكبر والأهم في التراث اليهودي الذي سيطر على الحياة والفكر اليهوديين حتى اليوم. ويكفي أن التلمود البابلي هو مرجع الحياة اليهودية الذي يحتوي التوراة نفسها ويتجاوزها.