وفيما يتصل بعقد الذمة في الدولة (الإسلامية) الحديثة فكما يرى العوا ليس له محل من الوجود إذ أن تلك الدولة لم تقم على حق الفتح، حتى يكون هناك عهد ذمة لأهل تلك البلاد، بل قامت على حق التحرر من الاستعمار، ذلك التحرر الذي شارك في صنعه كل من المسلمين والمسيحيين، ومن ثم أصبح الإطار القانوني الذي يحكم تلك العلاقة هو المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. بل يمكن القول بأن قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" يُعاد استعمالها في أجلى صورها، ويبقى حق المسلمين فيها هو حق الأغلبية في كل بلاد الدنيا، ويظلل المجتمع بأسره فكرة النظام العام التي تسمح بتطبيق القوانين الإسلامية واحترام كل من الأغلبية والأقلية لها.
إن موقف الإسلام من أهل الذمة لا يستند إلى حالة عاطفية أو عقلية وإنما إلى قاعدة قانونية فقهية وإلى الرؤية الإسلامية للكون. ولعل الواقعة التالية التي يذكرها ميخائيل شاروبيم في الكافي تبلور هذه الفكرة. فمن المعروف أن الوالي عباس الأول، الذي تولَّى الحكم قبل محمد سعيد، كان شديد النقمة على النصارى، وأخرج منهم كثيرين من خدمة الدولة، وأراد أن يدبر إخراجهم من وطنهم وإبعادهم إلى السودان، ولزمه لتنفيذ هذا الأمر أن يستصدر من الأزهر فتوى بجوازها، فطلب إلى الشيخ الباجوري، شيخ الجامع الأزهر وقتها، الرأي في جواز إبعادهم، فرفض الشيخ إنفاذ رغبة الوالي قائلاً:«إنه إن كان يعني الذميين الذين هم أهل البلاد وأصحابها، فالحمد لله لم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ، ولم يستول عليها خلل، وهم في ذمته إلى اليوم الآخر» . إن القاعدة الفقهية الخاصة بأهل الذمة وحقوقهم المطلقة مسألة ثابتة لا تحتمل النقاش.