إن ما حدث هو أن بعض مجالات الحياة العامة وحسب تمت علمنتها، وظلت الحياة الخاصة حتى عهد قريب جداً محكومة بالقيم المسيحية أو بالقيم العلمانية التي تستند في واقع الأمر إلى مطلقات إنسانية أخلاقية، أو مطلقات مسيحية متخفية. فكأن الإنسان الغربي كان يعيش حياته العامة في مجتمع علماني داخل إطار المرجعية المادية الكامنة (علمانية شاملة) ، ولكنه كان يحلم ويحب ويكره ويتزوج ويموت داخل إطار المرجعية المتجاوزة المسيحية أو شبه المسيحية الإنسانية (علمانية جزئية) . ولذا، كان من الممكن أن نجد أستاذاً للفلسفة يُدرِّس فلسفة إباحية عدمية في الجامعة (حياته العامة) ولكنه لا يسمح لابنته أن تعيش مع شخص دون زواج، بل يذهب إلى الكنيسة كل أحد. وكان من الممكن أن نجد رأسمالياً يؤمن بشكل كامل بقيم السوق النفعية ولكنه يدافع بشراسة عن مؤسسة الأسرة، فتمت عملية الضبط الاجتماعي الخارجية من خلال المرجعية المادية الكامنة، وتمت عملية الضبط الاجتماعي الداخلية من خلال المنظومة المسيحية أو المنظومة الهيومانية. ولعل هذا هو أساس الزعم العلماني الخاص باستقلال الحياة العامة التي تحكم قيم الدولة العلمانية عن الحياة الخاصة التي تتركها الدولة العلمانية للفرد يمارس فيها حريته الدينية وهويته الإثنية. فالفرد في الغرب كان بالفعل حراً في حياته الخاصة لا لأن الدولة (وكذلك قطاع اللذة) قد أحجمت عن التدخل فيها (و"استعمارها" على حد قول هابرماس) وإنما لأن المسيحية والمطلقات الهيومانية استمرت في وجدانه. ولم يكن بوسع الدولة العلمانية أو وسائل الإعلام وقطاع اللذة التغلغل في هذا المجال، ومن ثم تمت إعاقة المتتالية العلمانية عن التحقق لتظل بالأساس علمانية جزئية.