ولكن الأمور تغيَّرت إذ تتابعت حلقات المتتالية بخطى أخذت تتزايد في السرعة (إلى أن اكتملت في منتصف الستينيات) . فقد ازدادت الدولة العلمانية قوة وتغولت وأصبحت الدولة التنين التي تنبأ بها هوبز وأحكمت بمؤسساتها الأمنية قبضتها على الفرد من الخارج. كما أحكمت مؤسساتها التربوية قبضتها عليه من الداخل، تساعدها في ذلك وسائل الإعلام وقطاع اللذة اللذان تمدَّدا وتغولا بطريقة تفوق تغوُّل الدولة وتنينيتها. واتسع نطاق العلمنة وتخطى عالم السياسة والاقتصاد ووصل إلى عالم الفلسفة (فلسفة الاستنارة والعقلانية المادية) ، ثم عالم الوجدان. وأخيراً إلى عالم السلوك اليومي، أي أن الإنسان تم ترشيده وتدجينه تماماً من الداخل والخارج، ولم يَعُد هناك أي أثر للمرجعية المتجاوزة، ولم يعد هناك أي أساس لأية معيارية، إذ أصبح لكل مجال من مجالات الحياة معياريته (غير الإنسانية) المستقلة. فتآكلت بقايا القيم المسيحية والقيم الإنسانية الهيومانية ومات الإله (على حد قول نيتشه) وظهرت الفلسفات المعادية للإنسان، مثل البنيوية وما بعد الحداثة، التي تُنكر على الإنسان المقدرة على التجاوز.
وقد حدث الشيء نفسه للمنظومة الاشتراكية. فبدلاً من التأرجح بين المرجعية المتجاوزة (الإنسان والقيم الإنسانية المطلقة) والمرجعية الكامنة (وسائل الإنتاج ـ حركة المادة ـ إشباع الحاجات والملذات المادية) ، تَغوَّلت الدولة السوفيتية وتَغوَّل الحزب ووسائل الإعلام وقطاع اللذة وزاد التركيز على الاشتراكية العلمية في صفوف النخب الحاكمة الاشتراكية، وأصبح اللحاق بالغرب الذي يدور في إطار الطبيعة/المادة (وليس تحقيق إمكانات الإنسان المتجاوزة) هو المثل الأعلى. فتم ترشيد الإنسان وتدجينه، وبدأ يختفي تدريجياً أي إحساس بمطلقات متجاوزة (ظلال الإله) إلى أن اختفى الإنسان ومات الإله وسادت النسبية والنفعية.