ونحن نعرف تماماً، من خلال معرفتنا بالترشيد الإجرائي أو الأداتي، وأخلاق الصيرورة، أن طبيعة العمل والهدف منه ليست لهما أية أهمية، فالمهم هو كيفية إدارته (الأداء والإجراءات) وكيفية توظيف الطاقة البشرية بأقل التكاليف لتحقيق أعلى عائد. ويبدو أن المجتمع الأمريكي الرشيد يشارك في هذه الرؤية، أو على الأقل قطاعات مهمة فيه، فحينما قُبض على السيدة سيدني بيدل باروز Sydney Biddle Barows (وهي سيدة من أسرة باروز الأرستقراطية العريقة، التي أتى مؤسسها على سفينة الماي فلاور، أول سفينة نقلت المهاجرين الإنجليز إلى الولايات المتحدة) ، وحينما وُجِّهت إليها تهمة إدارة حلقة دعارة في نيويورك، انطلقت من رؤية واحدية مادية صارمة ترفض أي تجاوز أو ثنائيات أو غيبيات وبيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدعارة عمل استثماري، بيزنس business (وهذا لا يختلف عن خط دفاع أيخمان عن نفسه، وهو أنه موظف حكومي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر) . وبعد فترة قصيرة من التردد، نفض الناس عنهم أية مرجعيات ميتافيزيقية متخلفة وتقبلوا الروية الواحدية المادية واستطاعوا أن ينظروا إلى سيدة الماي فلاور بشكل موضوعي، وتحولت قصتها من قصة صاحبة ماخور، إلى قصة صاحبة عمل ناجح. وهو ما دفعها إلى نشر سيرتها الذاتية تحت عنوان قصة حياة الماي فلاور مدام، أو حياة سيدني بيدل باروز السرية. وأصبح هذا الكتاب من أهم الكتب المُتداوَلة وحققت المؤلفة أرباحاً خيالية منه (كما هو الحال دائماً مع مثل هذه الكتب في عصر الفضائح والترشيد الإجرائي) . وبعد ذلك بعامين، صدر كتاب لنفس السيدة، وكان أكثر إجرائية، فقد كان يُسمَّى آداب الماي فلاور: قواعد السلوك للراشدين المثقفين Mayflower Manners: Etiquette for Consenting Adults. وعبارة " كونسنتج أدلتس " التي ترد في العنوان هي عبارة قانونية تشير إلى أي شخصين بالغين يمارسان الجنس معاً برضائهما، ولذا فعملهما شأن خاص بهما. وفي