اليهودية، إذن، من هذا المنظور، هي دين قومي عرْقي، أو قومية دينية مقدَّسة تمزج الوجود التاريخي المتعيِّن والتصور الديني المثالي. ولذلك، فهي ديانة حلولية تعرف ثنوية الأنا والآخر ولكنها لا تعرف الثنائية الفضفاضة الناجمة عن الإيمان بإله واحد منزَّه. ولذا فاليهودية لا تفرِّق بين الإله والتاريخ أو بين الأرض والسماء. ولذلك، فإننا نجد أن الملكوت السماوي وآخر الأيام يكتسبان في اليهودية الحلولية طابعاً قومياً، فهما مرتبطان بمجئ الماشيَّح الذي يأتي ليعود بشعبه إلى أرض الميعاد. وقد عرَّفت الشريعة اليهودية اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو من تهوَّد، وقد اعتمدت بذلك تعريفاً قومياً دينياً للهوية.
هذا من ناحية الرؤية. أما من ناحية الواقع التاريخي المتعيِّن، فنحن نرى أنه لا تُوجَد قومية يهودية أو شعب يهودي وإنما جماعات يهودية منتشرة في العالم تحكَّمت في صياغتها حركيتان أساسيتان متكاملتان:
١ ـ فالجماعات اليهودية لم تكن قط تشكل كتلة بشرية متماسكة تتبع مركزاً ثقافياً أو دينياً واحداً يحدد معايير مثالية أو واقعية يصوغ أعضاء هذه الجماعات رؤيتهم لأنفسهم وأسلوب حياتهم تبعاً لها، بل لم يكن لديهم ميراث ثقافي أو ديني واحد. فالجماعات اليهودية كانت منتشرة في كثير من بقاع الأرض داخل معظم التشكيلات الحضارية المعروفة وداخل البنَى التاريخية والقومية المختلفة، تتفاعل معها وتساهم فيها وترقى برقيها وتتخلف بتخلفها. فاليهودي في الأندلس كان عربياً، واليهودي في روسيا كان روسياً، وفي اليمن كان يمنياً، وهو أمريكي في الولايات المتحدة. وقد أدَّى هذا إلى تحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى تركيب جيولوجي غير متجانس، ولا يختلف ذلك عن العقيدة اليهودية بخاصيتها الجيولوجية.