وأول تلك الأنساق هي اليهودية التي تمت صهينتها أو الصهيونية ذات الديباجات الدينية اليهودية، ونعني بها تلك المعتقدات من اليهودية التي توظِّفها الصهيونية في مشروعها لبناء الدولة الصهيونية. ولا نقصد بذلك أن هذا التوظيف يتوافر على رؤية معرفية كلية، على درجة من الثبات المنهجي، تفسر الوجود السياسي، وتقيِّم الحركة السياسية، بصورة منطقية ومتجانسة. فاليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً عاجزة وعصيِّة تماماً على الانصهار في مثل تلك الرؤية المعرفية المحددة. غير أن هذه السمة الجيولوجية التراكمية نفسها، بما تشتمل عليه من أنساق وأفكار ومعتقدات ومفاهيم متعددة ومختلفة ومتناقضة، جعلت من اليسير على الصهيونية أن تختار الإطار المعتقدي أو المنطلق القيمي المناسب والمطلوب، لتقييم كل حركة أو مرحلة سياسية أو تبريرها، والتعامل معها؛ كما أنها (أي السمة التركيبية الجيولوجية التراكمية) تسمح بتفسير أو تبرير كل حالة سياسية، أو حتى الوجود السياسي نفسه، وذلك كله تبعاً لتغيُّر الإطار - أو حتى الظرف - التاريخي والسياسي والاجتماعي، أو تبعاً لاختلاف طبيعة التوظيف المعتقدي المطلوب سواء كان دعوياً يتجه إلى تأكيد رابطة الولاء والانتماء اليهودي للكيان الصهيوني، أو دعائياً يرمي إلى كسب التعاطف والتأييد الخارجي (الدولي) لهذا الكيان. ومع أن مثل هذا التوظيف التلفيقي يعمل على صبغ الصهيونية وشحنها بالمفاهيم والأطروحات المتناقضة الأمر الذي يدفعها في النهاية للانفجار والتفتت الفكري، إلا أنه يهيئ لها من جهة أخرى، وبخاصة في ظل ظروف وتحالفات دولية مواتية، استمراراً مرحلياً ما دامت تواجه بيئة سياسية واهنة أو مسترخية فكرياً وسياسياً، كما هو الحال في البيئة الثقافية والسياسية العربية الراهنة، وذلك بغض النظر عن الطاقات والإمكانات الفكرية والسياسية الكامنة لهذه البيئة (العربية) .