والمُلاحَظ أن مقدمات دبنوف التحليلية رغم ديباجتها الإنسانية والتاريخية الواضحة، صهيونية حتي النخاع، ولا تختلف كثيراً عن مقدمات فيلسوف الصهيونية الثقافية آحاد هعام. فكلٌّ منهما، شأنه شأن كل صهيوني، يفترض وجود أمة يهودية لها شخصية متميِّزة ووضع فريد بين الأمم، وأن ثمة تاريخاً يهودياً عالمياً، وأن ثمة وحدة عالمية بين جميع الجماعات اليهودية في العالم تفصلها عن التشكيلات التاريخية التي توجد فيها هذه الجماعات (وهذه المقدمات هي نفسها مقدمات الفكر الصهيوني، وبالتالي لم يكن مفر من أن يصل إلي نتائج صهيونية) . ولكن دبنوف لا يتحدث في واقع الأمر عن القومية اليهودية وإنما عن القومية اليديشية أو عن السمات القومية الخاصة بيهود شرق أوربا الذين كانوا يُشكِّلون ما يقرب من ٨٠% من يهود العالم، لكن تجربتهم التاريخية لم تكن سوي تجربة تاريخية واحدة ضمن عشرات التجارب التاريخية الأخري لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم. والخطأ الذي يرتكبه دبنوف لا يكمن في تزييف الحقائق وإنما يكمن في مستوي التعميم، فهو يتحدث عن الجزء (يهود اليديشية) باعتباره الكل (يهود العالم) . ولعل هذا يعود إلي أن كل أوربا، عبر تاريخها، تتحدث دائماً عن اليهود بشكل مطلق، وعن اليهود "ككل"، وعن اليهود "في كل زمان ومكان"، وعن "التاريخ اليهودي". ولذا، فإنه لم يستطع الإفلات من الخطاب الغربي ـ اليهودي وغير اليهودي. كما أن أوربا (في القرن التاسع عشر) كانت تظن نفسها مركز العالم وكان يُشار إلي ما هو غربي بوصفه عالمياً (وحتي الآن نتحدث نحن أنفسنا عن الرأي العام العالمي ونحن نعني في واقع الأمر " الرأي العام الغربي") . ويمكننا أن نضيف إلي كل هذا ضخامة الجزء اليديشي مقابل ضآلة ما تبقَّي من الكل اليهودي.