والتاريخ اليهودي حسب تصوُّر دبنوف قد مرّ بالمراحل الثلاث. فالقبائل العبرانية تجمعت في كيان قومي في فلسطين علي رقعة واحدة من الأرض وتحت حكم دولة موحدة. وقد فقد اليهود أولاً الدولة ثم بعد ذلك الأرض. ورغم ذلك، فقد حافظوا علي كيانهم الحضاري الروحي المستقل، وعلي وعيهم بذاتهم كجماعة مستقلة. ولكن لماذا يحتفظ اليهود باستقلالهم؟ يقول دبنوف: إن هذا ليس معجزة تاريخية، فأوضاع اليهود الفريدة هي التي خلقت كيانهم الفريد، فهم يشكلون أمةً لا دولة ولا أرض لها، ولذا، فقد أُعفوا من مسئولية الحكم والاضطرار إلي اللجوء للعنف والقسر، إذ أن الدولة الحاكمة هي وحدها التي تجد نفسها مضطرة إلي ذلك. بل علي العكس من هذا، وجد اليهود أنفسهم مرغمين علي تطوير العناصر الروحية في حضارتهم وتراثهم لتُحرِّرهم من عبء السلطة السياسية، فهم أمة الروح (علي حد قول آحاد هعام)
ويُفرِّق دبنوف بين الأنانية القومية والفردية القومية، ويري أن القومية اليهودية يجب عليها أن تعرف حدودها وألا تطمع في الاستيلاء علي أرض الآخرين، ولكن يجب عليها في الوقت نفسه أن تتخطي الاندماجية بأن تحاول تمجيد ذاتها دون أنانية وبأن تحاول تطوير الذات اليهودية وملامحها المستقلة. ولكن مستقبل الأمة اليهودية لا يتوقف علي أية رسالة سرمدية تنقلها للعالم، بل يعتمد أساساً علي مدي نجاحها في تطوير شخصيتها الحضارية المستقلة. وهذه الشخصية ليست شخصية ثابتة متقولبة تعبِّر عن فكرة جوهرية أزلية، وإنما هي شخصية كانت ولا تزال في حالة تَطوُّر وتَغيُّر دائمين، أي أن دبنوف يقف علي الطرف النقيض من الصهاينة الذين يخلعون صفة الأزلية علي الشخصية اليهودية ويرون أنها تجسيد لرسالة اليهود السرمدية التي تتخطي حدود التطورات التاريخية وتعلو عليها.