والفرق الأساسي بين المرحلتين أن الأولى تتميَّز بوجود مركز واحد أو مركزين متصارعين (الإنسان والطبيعة) ولذا فهي صلبة، أما الثانية فتتميَّز بتعدُّد مفرط في المراكز أو بعدم وجود مركز فهي سائلة. ولنا أن نلاحظ وجود مجموعة من الثنائيات الفرعية (الإنتاج مقابل الاستهلاك ـ المنفعة [البرانية] مقابل اللذة [الجسدية]ـ التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر ـ التراكم مقابل التبديد والإنفاق ـ الدولة مقابل السوق) وهي ثنائيات تعكس ثنائية الصلب والسائل، فالإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة تفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي) ، أي أنها تعبير عن العقلانية المادية. أما الطرف الثاني (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء وتختفي الثنائية الصلبة لتحل محلها سيولة شاملة، وتختفي المادية القديمة لتحل محلها المادية الجديدة، وتختفي العقلانية المادية لتحل محلها اللاعقلانية المادية.
وقد لاحظنا أن العلوم الإنسانية الغربية تتناول الواقع الغربي وكأنه مجموعة ظواهر مستقلة، لها تواريخ مستقلة، كما أنها تخلط بين المشروع الإصلاحي والآمال من جهة، والواقع التاريخي المتحقق (البنية التي تحققت) من جهة أخرى. وسنحاول في هذا الدراسة أن نستخدم نموذجاً تحليلياً واحداً لنبيِّن الاستمرار والانقطاع في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، وأن ثمة وحدة فضفاضة وراء كل الظواهر المتنوعة، أي أنها وحدة لا تَجُبُّ التنوع، واستمرارية لا تَجُبُّ الانقطاع والتحولات النوعية.
وفي تصوُّرنا أن تقسيم تاريخ الحضارة الغربية الحديثة الذي نقترحه له قيمة تفسيرية تحليلية عالية. ومع هذا يتعيَّن علينا أن نلاحظ ما يلي: