وإلى جانب هذا، كان الصهاينة يرون الفلسطيني أو العربي حيواناً أو مخلوقاً اقتصادياً محضاً تحركه الدوافع الاقتصادية المباشرة. ولذا، فيمكن حل المشكلة العربية (حسب هذا التصور) في إطار اقتصادي لا يكون سياسياً بالضرورة. ولعل من الأمثلة الأولى على هذه الإستراتيجية الإدراكية رشيد بك، هذا العربي الذي تم تخليقه حسب المواصفات الصهيونية في رواية هرتزل الأرض الجديدة القديمة، فهو يؤكد أن الوجود الصهيوني قد عاد على العرب بالنفع الكبير: لقد زادت صادرات البرتقال عشر مرات، كما أن الهجرة اليهودية كانت خيراً وبركة، خصوصاً بالنسبة لملاك الأراضي لأنهم باعوا أرضهم بأرباح كبيرة. وظل لفيف من الصهاينة يؤمنون إيماناً راسخاً بإمكان التغلب على معارضة الفلسطينيين عن طريق توضيح المزايا الاقتصادية الجمة التي سيجلبها الاستيطان الصهيوني، وعن طريق حثهم على الرحيل إلى البلاد العربية بعد إعطائهم التعويض الاقتصادي المناسب عن وطنهم. وكانت إحدى القناعات الإدراكية عند وايزمان أن تطوُّر فلسطين سيؤدي إلى أن يفقد العرب الاهتمام بالمعارضة السياسية.
ويؤكد وولتر لاكير وغيره من المؤرخين أن السياسة الرسمية للصهيونية في العشرينيات (ويمكن أن نضيف: وبعدها) هي عدم الدخول في مناقشات سياسية مع العرب، بأية حال، وحصر أيَّ تفاوض في التعاون الاقتصادي وحده، وعدم التعرض لطبيعة النظام السياسي. ويُلاحَظ أن الإستراتيجية الإدراكية هنا تهدف إلى إسقاط الطبيعة القومية لردة الفعل العربية، فلو تم تصنيفها كحركة قومية فإن منطق التصنيف نفسه يؤدي إلى ضرورة الاعتراف بالعرب كجماعة قومية لها أرض قومية وتراث قومي ومجال قومي ومجموعة من الحقوق القومية تنسف الادعاءات الصهيونية القومية بشأن الأولوية القومية الأزلية لليهودي في أرض فلسطين.