وقد طرح الصهاينة رؤيتهم للمجتمع اليهودي المثالي (أي التجمُّع الصهيوني) كجزء من مشروع حضاري متكامل يهدف إلى تطبيع الشخصية اليهودية (وهذا في واقع الأمر أول استخدام للمصطلح في الأدبيات الصهيونية) . والتطبيع هنا يعني الشفاء من عقلية الاستجداء الاقتصادي من الغير أو الأغيار ومن الاعتماد السياسي عليهم، كما يعني عدم الانغماس في أعمال اسمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة والتحول إلى شعب يهودي منتج بمعنى الكلمة يسيطر على كل مراحل العملية الإنتاجية، وبالتالي على مصيره الاقتصادي والسياسي. وقد عبَّر بوروخوف عن القضية نفسها بقوله إن الحل الصهيوني هو أن يقف الهرم الإنتاجي على قاعدته فيتركز اليهود في العمليات الإنتاجية (في قاعدة الهرم) ، ويعملون بأيديهم، وتصبح أغلبيتهم من العمال والفلاحين. أما المهنيون والعاملون في القطاعين التجاري والمالي، فإنهم يصبحون قلة على قمة الهرم، شأنهم في هذا شأن أي مجتمع آخر. وهذا ما يُطلَق عليه اصطلاحًا «العمل العبري» و «غزو الأرض والعمل والحراسة والإنتاج» ، أي أن يستولي الصهيوني على الأرض ويعمل فيها بيده ويسيطر على مراحل الإنتاج كافة، وهو إن فعل هذا يكن قد أنجز الثورة الصهيونية الحقة، فاستولى على الأرض وزرعها، وعلى الهيكل الاقتصادي وعمل فيه، وعلى الهيكل السياسي وتَحكَّم فيه، وتحوَّل هو نفسه من شخصية هامشية إلى شخصية منتجة، أي أنه يكون قد تم تطبيعه تمامًا. ومن هنا، يكون الاستيطان الإحلالي (الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها والعمل فيها) لا فعلاً خارجيًا يحمل مدلولاً محدودًا وإنما هو فعل شامل ذو أبعاد سياسية وقومية، وفي نهاية الأمر نفسية، وهو أيضًا يحل مشكلة المعنى بالنسبة للصهاينة ويعقلن وجودهم في فلسطين التي تلفظهم ويقاتل أهلها ضددهم.