والسوق لا تتحكم فيه العواطف أو القيم الإنسانية، إذ تتحكم فيه آليات لا تَمُّت إلى الحب أو الكُره بصلة ولا يتم فيها أي تبادل إنساني وإنما يفترض أنه سيتم تبادل السلع والخدمات فيها في حرية كاملة، فالأمر كله إنتاج واستهلاك. والاستهلاك والإنتاج لا علاقة لهما بالمطلقات المعرفية أو الثوابت الأخلاقية أو الوظيفية أو الخصوصيات الإثنية أو الأخلاقية.
والسوق هو المكان الذي يتحوَّل فيه الإنسان العربي المسلم إلى إنسان طبيعي اقتصادي وربما جسماني يفهم مصلحته الاقتصادية ومنفعته ولذته ولا يكترث بشيء آخر، على استعداد للتفاهم بشأن أي شيء وأن يغيِّر قيمه بعد إشعار قصير.
وإذا كان داخل كلٍّ منا مجاهد على استعداد للدفاع عن شرفه وشرف أمته وقيمه (الإنسان الإنسان الذي يحوي العنصر الرباني) ، فهناك أيضاً في داخل كلٍّ منا بقال على استعداد لأن يبيع ويشتري كل شيء وضمن ذلك الوطن، نظير عمولة مجزية وسعر معقول، كما يوجد ذئب مستعد لأن يفترس من حوله وقرد مستعد لأن يقلد من ينتصر عليه. وفي السوق يتوارى المجاهد ويظهر البقال والذئب والقرد فتتحوَّل البلاد إلى فنادق وتتحول الأحلام إلى سلع. ولعل الموز الإسرائيلي (الذي قُدِّم للمستهلك المصري باعتباره بشرى بما سيكون) هو رمز جيد ومتبلور لعملية التفكيك الجديدة، فهو يتوجه مباشرة إلى الجهاز الهضمي ليُسقط الذاكرة والتاريخ والهوية والذات والموضوع والحق والحقيقة، ويعلن ندية الإنسان والمادة، والقومية العربية والصهيونية، فننزلق جميعاً إلى عالم خال من القيم والهوية - عالم السوق الشرق أوسطية وسنغافورة، عالم بلا مركز ولا قيم تتساوى فيه الأمور جميعاً، ولا يبقى إلا المصالح الاقتصادية المباشرة والتوجه نحو اللذة.