للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل عزلة الجماعة الوظيفية وبقاءها واستمرارها من خلال عملية الضبط الاجتماعي الصارمة هي التي تُفسِّر النفوذ الذي يتمتع به أثرياء هذه الجماعات ونخبتها الثقافية والقائدة، فهم يشكلون الشريحة التي تقوم بعملية الضبط هذه، وهم المسئولون عن ضمان بقاء الجماعة واستمرار أدائها بكفاءة.

وعملية العزل والإحساس بالغربة قد تبدأ بشكل واع أو بشكل غير واع، لكن آليات العزل تعمل بقوتها الذاتية بعد حين، ذلك أن أعضاء الجماعة الوظيفية يشكلون شبكة عائلية أو قَبَلية مُحكَمة تهيمن بالتدريج على مجموعة من الوظائف دون غيرها وتستبعد منها كل العناصر البشرية الأخرى، وافدة كانت أم محلية. وتبدأ الجماعة في تَوارُث الخبرات وأسرار المهنة ومراكمتها وتحسينها، وتزداد كفاءة أعضائها في أداء وظائفهم فيزداد تَركُّزهم ومن ثم تزداد عزلتهم وغربتهم. كما يتزايد تَميُّز أسلوب حياتهم الخاص، بل إنهم يكتسبون سمات إنسانية مرتبطة تماماً بوظيفتهم. فهم، مثلاً، بسبب عزلتهم وغربتهم وعدم إحساسهم بالطمأنينة، يحاولون تعويض هذا عن طريق مراكمة رأس المال فيعملون كثيراً ويُقتِّرون على أنفسهم ولا يرحمون أنفسهم وكذلك لا يرحمون الآخرين. ويؤدي هذا إلى تَزايُد إنغلاقهم نظراً لتجانسهم الإثني والحضاري واللغوي، وخصوصاً أن وظيفتهم تتطلب الانغلاق، إذ أن هذا يضمن المحافظة على الخبرات وأسرار المهنة وشبكة الاتصالات والعلاقات. وهكذا يقاوم أعضاء الجماعة الوظيفية كل عوامل الاندماج مع أعضاء المجتمع المضيف، فلا يسكنون بينهم ولا يتزاوجون منهم، ويبذلون قصارى جهدهم في المحافظة على عزلتهم. وعلى هذا النحو، فإن ما بدأ كعملية قسر خارجية يتم استبطانه ويتحول إلى رغبة داخلية وَمَثل أعلى، ومن ثم تصبح العزلة، التي كانت مفروضة عليهم في بادئ الأمر، هي مطلبهم الأساسي.

<<  <  ج: ص:  >  >>