«المسافة» هي «البُعْد» وهي أيضاً «المساحة» ، وقد تُستخدَم في الزمان فيُقال «مسافة يوم أو شهر» . والمسافة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود. والحد في اللغة يعني «المنع والفصل بين الشيئين» ، و «منتهى كل شيء» هو «حده»(المعنى الأنطولوجي) . والحد هو أيضاً تأديب المذنب كقولنا:«طُبِّقَ عليه الحد» ، و «حدود الله تعالى» هي الأشياء التي بيَّن حرامها وحلالها (المعنى الأخلاقي) . و «الحد» هو «التعريف الكامل» أو «تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه» ، و «حد الشيء» هو «الوصف المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره»(المعنى الدلالي) . وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي) . فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونه الأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية» ، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.
ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.