للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالسياق هو صلاح المعاملة؛ لِأَنَّ المَسْأَلةَ جاءت تعقيبًا عَلَى عَقْدٍ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى بعده: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.

الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ الْعُقُودَ لَيْسَتْ في صِيَغ مُعَيَّنَة، فتنعقد بما دَلَّتْ عَلَيْهَا، وكذلك الفُسوخ، وكذلك الولايات، كل التصرفات مِنْ عُقُودٍ وفُسوخ وولايات؛ فإنها تَصِحُّ بِمَا دَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لها لفظ مُعَيَّن، بل تُجْرَى عَلَى مَا يتعارفه النَّاسُ بَيْنَهُم، حتى عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْقَوْلِ الراجح لَا تُشْتَرَطُ له صيغةٌ مُعَيَّنَة، فيجوز عَقْدُ النِّكَاحِ بأيِّ لفظ يتعارف عَلَيْهِ النَّاسُ، فمثلًا يجوز قولنا: زَوَّجْتُك، أنكحتُك، مَلَّكتُك، عقدتُ لَك عَلَى ابنتي. وكذلك الْأَمْرُ فِي الوقف والسبيل، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْعَقْدِ أَوْ لا، حينئذ نرجع إِلَى اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرف رَجَعْنَا إِلَى الحقيقة اللُّغوية، كما ذَكَرُوا فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا، فَنرجِعُ إِلَى مُقْتَضَى الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ المُتَعَاقِدَيْنِ نِيَّة مُسْبَقَة؛ لأنَّهما يريدان هَذَا الْعَقْدَ، فَإِذَا كَانَت بينهما نِيَّة معروفة، واتفقَا عليها، عُمِل بها.

الفقهاء رَحِمَهُم اللَّهُ استَثْنَوْا بعض العُقود، وجعلوا لها صِيَغًا مُعَيَّنَةً، ففي النكاح مثلًا قالوا: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ (زَوَّجْتُك) أو (أَنْكَحْتُك)، فَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا" (١). قالوا: هَذِهِ المَسْأَلةُ تُستثنَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا الدَّليلُ عَلَى استثنائها، بل هَذِهِ المَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ تنعقد بِمَا دَلَّ عَلَيْهَا؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}،


(١) أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة، رقم (٥١٦٩)، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها، رقم (١٣٦٥).

<<  <   >  >>