للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}: {إِنْ} هُنَا ليست نافية، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: ٣١] بَلْ هِيَ مُخَفَّفَة مَنْ (إِنَّ) الثقيلة، وَالمَانِعُ مِنْ كَوْنِهَا نافيةً اثنان:

الأول: مانعٌ لفظيٌّ: وَهُوَ وُجُودُ اللام.

والثَّاني: مانعٌ معنويٌّ: وذلك لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدَ أَنَّهَا كادت تبدي به، ولذا يَقُولُ فِي باقي الآية: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا}، والربط يَقْتَضِي أَنَّهَا مَا أَبْدَتْ.

[من فوائد الآية الكريمة]

الْفَائِدَةُ الأُولَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِ البلاء تغير حالُه، فهذه أُمِّ مُوسَى كَانَتْ فِي البداية مطمئنة، ولذلك وضعته فِي التَّابُوتِ، ثم وضعته فِي الْيَمِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الطُّمأنينة، ولكنها أصبحت بعدما فارقته كَمَا قَالَ تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}، فَقَدْ صَارَ قلبُها الآن فارغًا، وأصبحت قَلِقَةً، كأنه ليس فِي الدُّنْيَا سِوى ابنِها، فالواقع أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ حَالٌ قَبْلَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، وله حالٌ بَعْدَ نزُولهِ، وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ للبلاء.

يُذكَر أَنَّ سَمْنُون بْنَ حَمْزَةَ، وَهُوَ أَحَدُ مشايخ الصوفية، وَكَانَ عَلَى دَرَجَةٍ عالية مِنَ الْعِبَادَةِ والزهد، وَلَكِنَّهُ قَالَ يَوْمًا:

فَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي

فابتُليَ بِحَبْسِ البَول، فَلَمْ يَقَرَّ لَهُ قرارٌ، فكان بعد ذلك يطوف عَلَى المَكَاتب وبِيَدِه قارورةٌ يقطُر منها بوله ويقول للصبيان: ادعوا لِعَمِّكم الكذاب (١). وذلك لِأَنَّ


(١) حلية الأولياء، لأبي نعيم (١٠/ ٣٠٩)، وتلبيس إبليس، لابن الجوزي (ص ٣٠٦).

<<  <   >  >>