وعلى مذهب الكوفيين تَكون اللَّام هي الناصبة، لكنَّ البصريين أَدَقُّ منهم في هَذِهِ الناحية، بل حَقيقَة الأَمر أَنَّ اللام حَرف جَرٍّ، وأنَّ (أَنْ) هي الناصبة مُقَدَّرة، ومُتعلق {لِتُنْذِرَ} المحذوف الذي قدَّره المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ [أَرْسَلْنَاكَ].
قوله تعالى:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الإنذار هو الإعلام بما يخَاف، والإعلام بما يرغَب يسَمى بِشارة، أو تبشيرًا، وقوله:{قَوْمًا} المراد بهم قريش، وَلَا يَعني ذَلكَ أَنَّ الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم- مبعوث إلَيْهِم خاصَّة، ولكن لأنَّ أوَّلَ مَن أَنْذَرَهُم كانت قريش، وإلَّا فَقَدْ بُعث لهم ولغيرهم، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ}[الفرقان: ١]، مِن قريش وغيرهم.
قوله تعالى:{مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}: {مَا} نافِيَة، و {أَتَاهُمْ} بمعنى: جاءهم، و {مِنْ} حَرف جَرٍّ زائدٌ؛ إعرابًا لا مَعْنًى، و {نَذِيرٍ} فاعلُ (أتى)، يعني: ما جاءهم نذيرٌ، وفائدة زيادة {مِنْ} أنَّ التنصيص على العُموم، في كل الأزمان الماضية ما أتاهم أَحَدٌ يُنذرهم قَبْلَ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقوله:{مَا أَتَاهُمْ}، والجملة في محل نَصْبٍ صِفَةٌ لـ {قَوْمًا}.
وقوله:{مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} قَالَ المُفَسِّرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ]، هَذَا تَفسير القوم، وَهَذَا لَا يُنافِيه أن إسماعيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قد أتاهم قَبْلَ النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَد يَكون قد طال العهد، حتى انْمَحَتْ رسالة إسماعيل، فصاروا محتاجين إلى نذير، ولم يأتهم نذير، فأتاهم رَسولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعدَ أَنِ انقرضت مَعَالِمُ رسالة إسماعيلَ، وإلَّا فلا ريب أَنَّ إسمَاعيلَ مُرْسَل إلَيْهِم؛ لأنَّهُ نبي، ولكنه انقرض، وَلهَذَا كَانَ مِن دعاء إسماعيل وإبراهيم أنهم قالوا:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}[البقرة: ١٢٩].