للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ أوَّلوه.

ولكننا نَقُولُ: هَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ تحريف، لكن أين دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى الْإِرَادَةِ؟ يقولون: إنَّ العقل يَدُلُّ عَلَى الْإِرَادَةِ بواسطة تخصيص المخلوقات، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ المخلوقات خُصِّص بشيء، هَذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ قاسيًا، فصار قاسيًا، وَهَذَا يَكُونُ لَيِّنًا فصار لَيِّنًا، وَهَذَا يَكُونُ طَوِيلًا، فيكون طويلًا، وهذا قصير، فيكون قصيرًا، إِلَى آخِرهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةٍ، أي: إن الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِن إرادة.

وبالنسبة للرحمة قالوا: نُؤوِّلها؛ لأن الرَّحمَة عِبَارَةٌ عَنِ رِقَّة تعتري القلب، وتُوجِب الحُنُوَّ عَلَى المرحوم.

فَنَقُولُ لهمْ: هذه الرَّحمَة التي ذكرتُم إِنَّمَا هِيَ رحمةُ المخلوقين، ونحن نُثبت للَّه رحمةً لَا تُشْبِهُ رحمةَ المخلوقين، ثم إننا نستدلُّ على الرَّحمَة بالعَقل كما استدللتم عَلَى الْإِرَادَةِ بالعقل، فكَم للَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ نِعَمٍ لَا تُعَدُّ ولا تُحصى، وكَم للَّهِ تعالى مِن تفريج كُرُبَاتٍ لَا تُعَدُّ، ولا تُحصى.

والأمر المقتضي لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لجلب النِّعَم، ودَفْعِ النِّقَمَ هو الرَّحمَة؛ لأن القاسِيَ الَّذِي لَا يَرحَم لا يجلب النِّعْمَةَ، وَلَا يَدْفَعُ النِّقْمَةَ.

فإذن: الاستدلالُ بالحوادث الَّتِي فِيهَا جلبُ النعمِ، ودفعُ النِّقَمَ أظهرُ وأبينُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بالتَّخصيص عَلَى الْإِرَادَةِ؛ لأن دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ عَلَى الْإِرَادَةِ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا أفرادٌ مِنَ النَّاسِ، لكن دلالة جَلْبِ المَنَافِعِ، وَدَفْعِ النِّقَمَ على الرَّحمَة كلُّ الناس يفهمونها، حتى الْعَامِّيّ فِي سُوقه إِذَا رَأَى رَجُلًا قاسيًا عَلَى أَوْلَادِهِ -مثلًا- قال: هَذَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ رحمة. وَإِذَا رَأَى أَنَّهُ -مثلًا- دائمًا يجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الشَّرَّ، قال: هذا إنسان رحيم.

<<  <   >  >>