قَوْلُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} هَذِهِ الجمْلَةُ المُرَادُ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ، ولَازِمُها أَنَّهُ يَكْرَهُ، مَعَ أَنَّ الْقِسْمَةَ العقلية لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، فنفيُ المحبَّة لَا يَلْزَمُهُ إثباتُ الكُره، فَقَدْ يَكُونُ لَا يُحِبُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يُكْرَهُ.
قَالَ تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: ٢٣]، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٢٠٥]، فهنا قد يحتمل كُلَّ مَا قُلْنَاهُ، ولكن الظَّاهر -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ المُرَادَ إِثْبَاتُ ضِدِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ القِسمة العقلية لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، لكن السياق يقتضيه؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَفَى اللَّهُ عَنْهُ حُبَّهُ نَجِدُ أَنَّهُ مِمَّا يكرهه اللَّهُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٢٠٥]، وَقَالَ تعالى: {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: ١٨]، وَقَالَ تعالى: {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: ١٤١].
فالظَّاهر مِن السِّياقات أَنَّ المُرَادَ إثباتُ الكراهة، لكنه أتى بنفي المحبة؛ لِأَنَّ المَحَبَّةَ محبوبة، كَأَنَّ هَذَا الَّذِي أحبَّ الفسادَ، أَوْ أَحَبَّ الفرح، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يُقابَل بِنَقِيضِ قَصْدِه.
وقوله: {الْفَرِحِينَ} قَالَ المُفَسِّرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [بِذَلِكَ]، والمشار إِلَيْهِ هُوَ كَثْرَةُ المَالِ، والمراد بالفرح الَّذِي نَفَى اللَّهُ محبته فَرَحُ البَطَر والأَشَر.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: كيف نَجمع بَيْنَ قَوْلِهِ تعالى هنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، وقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: ٥٨]؟
قلئا: إِنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ: {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} هو الفرح بِفَضْلِ اللَّهِ الدِّيني: الْعِلْم وَالْإِيمَان، وَلِهَذَا قَالَ: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} مِنَ الدُّنْيَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَنْ يَفْرَح الْإِنْسَانُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ، وَثبَتَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّه قال: "مَن سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute