فهذا إِحْسَانٌ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" هَذهِ عِبَادَةُ الطَّلب، وقوله: "فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ترَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، هَذهِ عِبادة الهَرَب والخوف، وَلَا شَكَّ أَنَّ العابد بِالمَعْنَى الْأَوَّلِ أكملُ مِن العابد بالمعنى الثَّاني؛ لأن العابد الأول مَرتبتُه عُليا، يَعْبُدُ اللَّهَ كأنه يراه، فهو يَقْصِدُ اللَّهَ، وله شوق كَبِيرٌ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما الثَّانِي، فَإِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ كأن اللَّهَ يَرَاهُ، فهو خائفٌ مِنْ رَبِّهِ، فعبادتُه هِيَ عِبَادَةُ الهَرَب، والأول عبادةُ طَلَب.
ولكن الإِحْسَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ إِذَا فسرناه بأنه إرادةُ الخير فقط لَا يَكْفِي، يقال: إنه بَذْلُ النَّدى، وَكَفُّ الْأَذَى، وهذا هو الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ، والندى بمعنى: العطاء، وَكَفُّ الْأَذَى واضح، فالإِحْسَان إذن له شِقَّان: بَذْلُ الندى، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالمَالِ، أَوْ بالجاه، أو بالبَدَن، وَكَفُّ الْأَذَى القولي والفعلي، وقد يتخلف أحدُهما ويكون الإِنْسَان محُسنًا مِنْ وَجهٍ، غيرَ محسنٍ مِنْ وَجْهٍ، ويكون مسيئًا إذا تخلف كفُّ الأذى.
وَمنْ هَذَا التَّعْرِيفِ لَا يَدْخُلُ الْعِلْمُ فِي الندى، نحن قلنا: إِنَّ الإِحْسَان يشمل المَالَ وَالْبَدَنَ والجاهَ، وتعليمُ الْعِلْمِ مِن الإِحْسَان البَدني، وكذلك النصيحة.
على كُلِّ حَالٍ: الإِحْسَان هُوَ عِبَارَةٌ عَن: بَذْل الندى، وَكَفِّ الْأَذَى.
وَأَنا أَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ، فَأَنْتَ لَا تؤذي النَّاس فتكون مسيئًا، ولا تَحْرِمُهم خيرَك، فَلَا يَكُونُ فيك إحسانٌ، فليس هناك إحسان إِذَا لَمْ تبذل الندى.
قوله: {الْمُحْسِنِينَ} الإِحْسَان هنا يَكُونُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِلَى عِبَادِ اللَّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute