قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ: وُلِدَ الأَمِيرُ أَبُو الْمُطَرِّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالشَّامِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَدَخَلَ الأَنْدَلُسَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ وَمِائَةٍ، فَقَامَتْ مَعَهُ الْيَمَانِيَّةُ، وحارب يوسف عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيَّ مُتَوَلِّي الأَنْدَلُسِ، فَهَزَمَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى قُرْطُبَةَ يَوْمَ النَّحْرِ مِنَ الْعَامِ، وَعَاشَ إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، قَالَهُ لَنَا مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ.
قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى سِيرَةٍ جَمِيلَةٍ مِنَ العدل، ومن قضائه مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ الْحَضْرَمِيُّ الْحِمْصِيُّ.
قَالَ أَبُو المظفر الأَبِيوَرْدِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ مَلَكَ الدُّنْيَا ابْنَا بَرْبَرِيَّتَيْنِ، يَعْنُونَ الْمَنْصُورَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُعَاوِيَةَ.
وَكَانَ الْمَنْصُورُ إِذَا ذُكِرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ذَاكَ صَقْرُ قُرَيْشٍ، دَخَلَ الْمَغْرِبَ وَقَدْ قُتِلَ قَوْمُهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ الْعَدْنَانِيَّةَ بِالْقَحْطَانِيَّةِ حَتَّى تَمَلَّكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ: أَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي بِلادِهِ "يَدْعُو" بِالْخِلافَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ أَعْوَامًا، ثُمَّ تَرَكَ الْخُطْبَةَ.
وَقِيلَ لَمَّا تَوَطَّدَ مُلْكُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَارَتْ إِلَيْهِ بَنُو أُمَيَّةَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَأَكْرَمَ مَوْرِدَهُمْ وَادَّبَّرَ أَرْزَاقَهُمْ، وَلَمْ يَهْجُهُ بَنُو الْعَبَّاسِ، وَلا هُوَ تَعَرَّضَ لَهُمْ، بَلْ قَنَعَ بِإِقْلِيمِ الأَنْدَلُسِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ اللُّغَوِيُّ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ: كَانَ بِقُرْطُبَةَ جَنَّةٌ اتَّخَذَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ فِيهَا نَخْلَةٌ أَدْرَكْتُهَا، وَمِنْهَا تَوَلَّدَتْ كُلُّ نَخْلَةٍ بِالأَنْدَلُسِ.
قَالَ: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ:
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي ... فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ ... عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ
لَوْ أَنَّهَا تَبْكِي إِذًا لَبَكَتْ ... مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهَلَتْ وَأَذْهَلَنِي ... بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي ... أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي