للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ أَبَا ذَرٍّ". فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ, قَالُوا: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ". فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ، وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ١، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ: إِذَا مِتُّ فَاغْسِلانِي وَكَفِّنَانِي وَضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ, فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ. فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ, فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا بِهِ حَتَّى كَادَتْ رَكَائِبُهُمْ تَوَطَّأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ, فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ. فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ". فَنَزَلَ، فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجَنَّهُ٢.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثِني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَا خيثمة، أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ، رَجَعَ -بَعْدَ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيَّامًا- إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي حَائِطٍ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا, فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشَيْنِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فِي الضِّحِّ٣ وَالرِّيحِ والحر، وأنا في ظل بارد وماء بارد وَطَعَامٍ مُهَيَّإٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالٍ مُقِيمٍ؟ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ. ثُمَّ قَالَ: لا وَاللَّهِ, لا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَيِّئَا لِي زَادًا. فَفَعَلَتَا, ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ, ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَدْرَكَهُ بِتَبُوكَ حِينَ نَزَلَهَا, وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ تبوك، قال أبو خيثمة لِعُمَيْرٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا، تَخَلَّفْ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ. فَفَعَلَ, فَسَارَ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "كُنْ أبا خيثمة". فقالوا: هو والله أبو خيثمة. فَأَقْبَلَ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: "أَوْلَى لَكَ أَبَا خيثمة". ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ خَيْرًا.

وَقَالَ ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة, وقاله مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ, فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ.

وقال مَعْمَر، عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عُقَيْل، قَالَ: فِي قوله تعالى: {اتَّبَعُوهُ


١ الربذة: قرية من قرى المدينة على ثلاثة أميال. "معجم البلدان" "٣/ ٢٤".
٢ أجنه: دفنه.
٣ الضح: الشمس.