فشخص من أهل الدنيا ويملك مليارات، يقول: دعانا في يوم من الأيام فإذا بمجلسه غاص بالناس، هل هم الأعيان؟ هل هم الوجهاء؟ هل هم الملأ من القوم؟ لا، كلهم فقراء، وبعد ذلك يجلس وبدون مبالغة، جلس نصفه خارج المجلس ونصفه داخل، متكئ على الباب، وهؤلاء الفقراء في صدر المجلس، ومع ذلك لما وضع الوليمة رفض أن يجلس معي، جلس معهم، وكان من عادته وديدنه أن يدخل المسجد يصلي العصر ولا يخرج إلا بعد صلاة العشاء، يعني هل الآخرة تعوقهم من تحصيل الدنيا؟ في سلف هذه الأمة أثرياء، ومع ذلك هم النجوم في العلم والعمل، وهذا لا يعوق، والدنيا لا تضر إلا لمن رأى أنه استغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(٦ - ٧) سورة العلق] فإذا رأى في نفسه أنه استغنى الآن وقعت الهلكة، أما إذا كانت الدنيا تحت تصرفه، وفي يده لا في قلبه، فإن هذا نِعَم على نِعَم.
يقول -رحمه الله- في مقدمة كتابه آنف الذكر:
"وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم".
ثم عاد بدأ بنا، قال:"وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما".
ثم ذكر حديث أبي برزة إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
جامع الكتب الذي يجمع من الكتب يملأ الدور بالكتب، لكنه لا يفيد منها، ولا يبذل منها، هذا لا شك أنه ككانز الذهب والفضة. وابن خلدون يقول:"أن كثرة التصانيف من عوائق التحصيل".
وهذا شيء مجرب، جربانه وجربه غيرنا، يعني يحتار الإنسان إذا أراد أن يختار تفسير آية من بين خمسين تفسير، أو ينظر شرح حديث من بين عشرات الشروح، يحتار قبل أن يبدأ، فإذا بدأ قال: لعل فلان تكلم أكثر، ولعل علان تكلم أكثر، ثم يضيع الوقت بمثل هذا، وحدث ولا حرج عما يضيع من الأوقات في ترتيبها، ترتيب هذه الكتب، وتنظيفها، ونقلها من مكان إلى مكان، هذا لا شك أنه شيء عائق عن التحصيل.