للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به، يعني قوم نوح- فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر البخل بعد البخل، فلا يأتي قرن إلّا كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، حتى قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إلى آخر القصة، فأوحى الله إليه أن اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بعد اليوم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.

فأقبل نوح على [عمل] الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه [الحديد] ، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلّا هو، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون: يا نوح هل صرت نجارا بعد النبوة؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد.

قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا، فجعل فيه كوى، ففعل نوح كما أمره الله تعالى «١» .

حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ يعني انبجس الماء من وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، وذلك أنه إذا قيل: إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة،

وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في تفسير ووَ فارَ التَّنُّورُ: أي طلع الفجر ونور الصبح

، ومن ذلك عبارته نوّر الفجر تنويرا، قتادة: موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. قال الحسن: أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنورا من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وهذا قول مهران «٢»

. ورواه عطية عن ابن عباس، قال مجاهد: وكان ذلك في ناحية الكوفة، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف بالله ما يظهر التنور إلّا من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علما لنوح ودليلا على هلاك قومه.


(١) المصدر السابق: ٤٨.
(٢) في تفسير القرطبي: ٩/ ٣٣، قول الحسن ومجاهد وعطية عن ابن عباس.

<<  <  ج: ص:  >  >>