للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظهراني سوقها فيسمع ناسا كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فرقا فرأى أنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا، أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قتل، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف.

ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا! فقام كالحيران لا يتوجّه وجها، ثمّ لقي فتى من أهل المدينة، فقال: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: دفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسّا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحقّ لي أن أسرع بالخروج منها قبل أن أخزى أو يصيبني شر فأهلك.

هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثمّ إنّه أفاق فقال: والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم، فقال: يا عبد الله، بعني بهذا الورق طعاما. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها. ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل، ويعجبون منها، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله، ففرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق: أفصلوا عليّ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به. فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين، وأنت تريد أن تخفيه عنا، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت فإنك إن لم تفعل نأت بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك.

فلما سمع قولهم عجب في نفسه، وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثمّ قالوا: يا فتى، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث، ولا تظن في نفسك أنك سنخفي عليك.

فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم، وفرق حتى ما يخبرهم شيئا، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه، ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكببا، حتى سمع به من فيها، فقيل: أخذ رجل عنده كنز، فاجتمع عليه أهل المدينة، صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذه الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط، وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا.

فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله: أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم

<<  <  ج: ص:  >  >>