للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لا يؤت عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا، ثم لم تعلموا أو لم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئا من أمره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، وإن كان البلاء هو الذي أزري به عندكم ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أن الله سبحانه يبتلي النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم، ولا هو انه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله تعالى بهذه المنزلة إلّا أنه أخ اجتبيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيّره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم، وهو مكروب جرين، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن بحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم.

ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشية من غير عيّ ولا بكم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الأولياء العالمون بالله وبأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ويعدون أنفسهم مع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزّعون خاشعون مستكينون.

فقال أيوب: إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، ولئن جعل الله تعالى العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة.

ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال: أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت لكم تصدّقوا عنّي بأموالكم! لعلّ الله أن يخلّصني، أو قرّبوا عنّي قربانا لعلّ الله يتقبّله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوقبتم بإحسانكم فهنالك بغيتم وتعزّزتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربّكم ثمّ صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف حقّي، منصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فإنّكم كنتم علىّ أشدّ من مصيبتي.

ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستعينا به متضرعا إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني؟

<<  <  ج: ص:  >  >>