وتحقيق القول فيه، أن إعراضنا عن ذلك مع علمنا بوجود المحرم لضرب من المصلحة، غير أن المصلحة منقسمة إلى مصلحة روعيت في حق مرتكبي المحرمات بمنعهم منها، وبزجرهم عنها، مثل النهي عن المنكرات في حق المسلمين، وهذا لم يشرع في حق أهل الذمة، فإذا عرفنا يقينا أنهم في بيعهم يقولون ما يقولون، فلا يتعرض لهم لمصلحة تعود إلى أهل الإسلام من وجه، وإلى أهل الذمة من وجه آخر.
فأما ما يرجع إلى أهل الإسلام فلا خفاء به.
وأما الذي يرجع إلى أهل الذمة، فهو أن البغية بعقد الذمة تقبيح سنن رشادهم، حتى إذا شاهدوا من آيات الله تعالى والأعلام على نبوة نبينا وخالطونا، انفتحت بصائرهم وقرب الأمر في استجابتهم، ولو لم يعقد لهم عقد الذمة، نفروا واستكبروا ولم يتحقق اللطف الذي يؤمن به قرب إجابتهم، فهذا هو السبب في تقريرنا إياهم وترك الإنكار عليهم. هذا إن عللنا.
وإن لم نعلل قلنا: الأصل أن لا يقرون ويمنعون إلا حيث أرخص الشرع فيه، وقد أرخص في تدك النكير في نكاح المحارم وغيره من المحظورات، فهذا تمام هذا الفن.
فإذا ثبت ذلك، فقد كان في ابتداء الإسلام مخيرا في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ثم صار ذلك منسوخا، ونفي الإعراض في غير ما تحاكموا إليه فيه، وقبل ذلك كان الإعراض جائزا فيما تحاكموا إليه فيه «١» ، وقد قال أبو حنيفة: إذا ترافعوا إلينا وقد جرى النكاح في العدة، فلا يعترض عليهم في الدوام، ومعلوم أن أول النكاح في العدة لم يكن على نحو ما يجوز في الإسلام، إلا أنهم يرون مانع العدة مختصا بالابتداء، وهو
(١) انظر ما ذكره ابو جعفر الطبري من أحكام هذه الآية في تفسيره.