وقصد بذلك ثابتًا لزهده وورعه، فظنَّ ثابتٌ أنَّه متن ذلك الإسناد وكان يحدث به. انتهى.
قوله:(أَو افْتِرَاءٌ)؛ أي: اختلاقٌ، وأنت خبيرٌ بأنَّ الافتراء هو الكذب ولا معنى لكون سبب الوضع؛ -أي: الكذب- الكذب، ولا نحو لنحوه الداخل تحت قوله:(ونحوهما)(١)، ويمكن أن يكون كناية عن عدم وجودِ سبب له أصلًا، وهو بعيدٌ لا معنى له؛ إذ لا بدَّ لفعل ذلك من داعٍ إلَّا أن تنزل دواعيه منزلة العدمِ.
من أسبابه: إفساد الدِّين كما فعلت الزنادقة إذ وضعوا أربعة عشرة ألف حديث كما رواه العُقيلي، منهم عبد الكريم بن أبي العرجا الذي قُتل وصُلب في زمن المهدي، قال ابن عَدي: لمَّا أُخِذَ ليُضرب عنقه قال: وضعتُ فيكم أربعة آلاف حديث أُحرم فيها الحلال وأحللُ الحرامَ، ومحمد بن سعيد الشَّامي روى عن حُميد، عن أنس مرفوعًا:«أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، إِلا أن يشاء الله»، وضعَ هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التَّنَبِي.
ومنها: التعصب والانتصار للمذهب كالخطَّابية والرافضة؛ كما روي أنَّ رجلًا من أهل البدع رجعَ عن بدعته فجعلَ يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه؛ فإنَّا كنا إذا رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا.
ومنها: اتباعُ هوى الرؤساء والأمراء تقرُّبًا إليهم بوضعِ ما يوافقُ فعلهم؛ كما فعل غياث بن إبراهيم حيث دخل على المهدي فوجده يلعب بالحَمَام فساقَ في الحال إسنادًا إلى النَّبيِّ ﷺ وقال:«لَا سَبَقَ إلَّا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حَافِرٍ أو جناحٍ»، فأمرَ لهُ المهدي بعشرة آلاف درهم، فلما خرج قال: أشهدُ أن قفاكَ قفا كذاب على رسول الله ﷺ، ما قال رسول الله ﷺ:«أو جناح»، وأمر بذبح الحمام وترك ما كان عليه، وقال: أنا الذي حَمَلته على ذلك.
ومنها: قصدُ الأجر والثواب في زعمِ الواضعِ؛ كما فعلهُ قوم يُنسبون إلى الزهد والصلاح جهلًا منهم بما يجوز لهم وما يمتنع، كما قيل: أن أبا داود النَّخعي كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار وكان يضع، وأنَّ وَهب بن حفص مكثَ عشرين سنة لا يُكلم أحدًا لاشتغاله بالعبادة وكان يكذب كذبًا فاحشًا، ولكن هؤلاء وإن خَفِيَ حَالُهُم على كثيرٍ فلم يخفَ على جهابذةِ الحديث ونُقَّادِهِ، قيل لابن المبارك في هذه الأحاديث المصنوعة فقال: تعيش لها الجهابذة، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].