وكان اعتمادُهم أوَّلًا على الحفظ والضَّبط في القلوب والخواطر، غير مُلْتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوِّلين على ما يَسْطُرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم، فلمَّا انتشر الإسلام واتَّسعت الأمصار، وتفرَّقت الصَّحابة في الأقطار، وكثُرت الفتوحات، ومات معظم الصَّحابة، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضَّبط واتَّسع الخَرْق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحقِّ؛ احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فمارسوا الدَّفاتر،
وقوله:(أوَّلًا)؛ أي: في أوَّلِّ الأمر قبل انتشار الإسلام وتَفَرُّقُ الصَّحابةِ في الأمصار فكانت كتابة الحديث إذ ذاك قليلة؛ لما ذكره الشَّارح من سرعة حفظهم، ولأنَّ أكثرهم كان لا يحسن الكتابة، ولوقوع الخلاف بين السَّلف في كتابة الحديث؛ فقد كَرِهَهَا طائفةٌ منهم؛ لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخُدريِّ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال:«لَا تَكْتُبُوا عنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ، فَمَنْ كَتَبَ عنِّي شَيْئًا غير الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ»، وأباحها آخرون؛ لحديث ابن عمرو قال: قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الشَّيءَ أَفَأَكْتُبُهُ؟ قال:«نعم». قلت: في الْغَضَبِ وَالرِّضَى؟ قال:«نعم؛ فإنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إلَّا حَقًّا».
وحديث رافع بن خَدِيج قال: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ فقال:«اكْتُبُوا وَلا حَرَجَ».
وأسند الدَّيلميُّ عن عليٍّ مرفوعًا:«إِذَا كَتَبْتُم الْحَدِيْثَ فَاكْتُبُوْهُ بِسَنَدِهِ».
ثمَّ أجمعوا بعد ذلك على جوازها وزال الخلاف وجمعوا بين هذه الأحاديث؛ بأنَّ الإذن لمن خافَ نسيانه، والنَّهي لِمَن أمن ووَثِقَ بحفظه، أو النَّهي خاصٌّ بوقت نزول القرآن؛ خشية التباسه، والإذن في غيره.
قوله:(فَمَارَسُوا الدَّفَاتِرَ) جمعُ دفتر -بفتح الدَّال وقد تُكسر، كما في «القاموس» - وهو جماعة
(١) كذا قال ﵀، وقوله: (والخلف) لا يتوافق مع قوله: (أولًا).