قوله:(وَيَنْضَافُ لِذَلِكَ … ) إلى آخره، أقول: الظَّاهر أنَّ المراد يَنْتسب لما تقدم من الشُّروط في المتواتر -أعني: كون رواته جمعًا يُؤمَن تواطؤهم على الكذب- ويلابسه أن يصحب خبرهم المذكور إفادته العلم لسامعه، فالمعنى أنَّه متى كان المتواتر كذلك صَحِبه العلم اليقينيُّ بأنَّه مِن كلام مَن أُسند إليه أو بثبوت مدلوله في الواقع، ويدلُّ لذلك عبارة شرح «التَّقريب» وهي: والمتواتر ما نقله مَن يَحْصل العلم بصدقهم ضرورةً بأن يكون جمعًا لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أوَّله … إلى آخره، ولذا كان مفيدًا للعلم الضَّروريِّ وهو الَّذي يضطَّر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه، ثمَّ قال: ولذا يجب العمل به من غير بحثٍ عن رجاله. انتهى.
أي: عدالة وفسقًا بخلاف غيره فلا يُقبل ويعمل به إلَّا بعد تحقُّق عدالة راويه، قال الأصوليُّون: ولا يشترط فيه؛ -أي: المتواتر- الإسلام، بل يُقبل ولو من كفَّار إذا كان إخبارًا عن محسوس؛ -أي: أمر يُدرك بالحسِّ كسمع أو بَصر- كالإخبار بوجود مكة أو قتل الملك الفلانيِّ لا عن معقول كإخبار الفلاسفة بقدم العالم أو عدم البعث فلا يُسمى متواترًا ولو أخبر به العدد المذكور. انتهى.
فانظر هل ذلك عامٌّ حتَّى في الأحاديث النَّبويَّة فتُقبل ويُحتجُّ بها برواية الكفَّار تواترًا ظاهرًا؟ إطلاقهم أنَّه كذلك ولو كان السَّند كلُّه كذلك إلى الرَّسول ﷺ، لكن الَّذي يظهر لي خلافه إذ كلام المحدِّثين وأهل الاصطلاح على أنَّه لا يُقبل ويحتجُّ به من الأحاديث إلَّا الحديث الصَّحيح، وهو ما رواه عدل … إلى آخره، حتَّى رَدُّوا رواية المجهول عينًا أو صفة ورواية الدَّاعية لبدعته وإن لم يَكفر بها على الصَّحيح كالرَّوافض كما سيأتي، وقد قال النوويُّ في «التَّقريب»: أجمع الجماهير من أئمَّة الحديث والفقه أنَّه يُشترط فيمن يُحتجُّ بروايته أن يكون عدلًا ضابطًا بأن يكون مسلمًا بالغًا … إلى آخره. انتهى.
ولا يخفى أنَّ مبنى تقسيم الأحاديث إلى صحيح وغيره من الأقسام الكثيرة الآتية إنَّما هو على اعتبار أحوال الرُّواة عدالة وفسقًا، واضطربت أقوالهم في رواية أشخاص كثيرين؛ لاضطرابهم فيهم جرحًا وتعديلًا مع شِدَّةِ تحرِّيهم في الرِّواية والرُّواة، أَفَتَرَاهُم مع ذلك يَقبلون من كافر ولو بلغَ من الكثرة ما بلغ سيَّما وقد قال ﷺ فيما رواه ابن عباس مرفوعًا، كما في المدخل:«لَا تَأْخُذُوْا الْعِلْمَ إِلَّا مِمَّنْ تَقْبَلُوْنَ شَهَادَتَهُ»، وحديث الشَّمائل:«انْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُوْنَ دِيْنَكُم»، وقد قال الله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [المجادلة: ١٤]، فأخبر تعالى أنَّهم يكذبون ويروِّجون